فرج الأعور *فمنذ تنفيذ عملية أسر الجنديين الإسرائيليين في 12 تموز 2006، وقبل أن يبدأ العدوان الإسرائيلي على أثرها، أعلن السيد حسن نصر الله أنّ هدف العملية الوحيد هو استعادة الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية بواسطة عملية تبادل يُتفاوض عليها بشكل غير مباشر.
وإذا نظرنا اليوم إلى الأمر، نرى أنّ هذا الهدف قد تحقّق مئة في المئة، بالرغم من العدوان الهائل الذي قامت به إسرائيل بعد عملية الأسر، وبالرغم من المواجهة الداخلية الطاحنة التي اندلعت في البلد منذ انتهاء ذلك العدوان، والتي استهدفت إنهاء المقاومة والخلاص منها بشكل نهائي.
وكي تتمكن من الوصول إلى هذه النهاية السعيدة، كان على المقاومة أن تخطّط لعملية أسر الجنديين وتنفّذها بنجاح ومن دون أيّ خطأ، وأن تصمد بوجه إسرائيل وتحقق الانتصار النسبي الكبير الذي حققته في حرب تموز، وأن تنجح في الاحتفاظ بالجنديين وفي عدم تسريب أي معلومات عنهما لمدّة سنتين، وأن تفاوض على تبادل الأسرى بصبر وثبات حتى تحقيق المطلوب من المفاوضات، وأخيراً أن تنفّذ عملية التبادل بالجدية والمهنية المعروفة عنها.
أي إنّ المقاومة نجحت في استخدام العمل العسكري في مراحل معينة من هذه العملية المتسلسلة، وفي استخدام المفاوضات في مراحل أخرى حتى تحقيق الهدف النهائي. وقد تحقّق هذا الهدف من دون أي كلفة حقيقية على المقاومة، لأن الجنديين اللذين استردتهما إسرائيل، أُسِرا من الأساس كي يستخدما في التبادل.
ويمثل استخدام المفاوضات وسيلة من وسائل المواجهة مع إسرائيل بعد أن كانت تُستَخدَم بديلاً من هذه المواجهة، نقطة تحوّل جديدة تسطّرها المقاومة في الصّراع العربي ـــ الإسرائيلي. فمنذ افتتاح عهد المفاوضات بين العرب وإسرائيل على يد أنور السادات بعد حرب 1973، أصرّ السادات ليس فقط على استخدام هذه المفاوضات بديلاً من المواجهة، بل على تجريد نفسه من جميع أوراقه التفاوضية وتسليم نفسه عارياً حتى من ثيابه للأميركيين حتى يحكموا بينه وبين إسرائيل.
وقد حكم الأميركيون يومها بأنّ خروج مصر من الصراع يستأهل الثمن المتمثل بإرجاع سيناء، ولكن من دون إرجاع الجيش المصري إليها إلا بشكل رمزي. وحين كرّت سبحة المفاوضات العربية ـــ الإسرائيلية بعد تداعي الوضع العربي ووصوله إلى القاع منذ ثمانينيات القرن الماضي، اتُّبِعت روحيّة الأسلوب الساداتي في المفاوضات من جميع المفاوضين، من ياسر عرفات في التسعينيات، إلى جميع «المعتدلين الجدد» من العرب في أيامنا الحاضرة.
فقد امتلأت صفحات الصحف وأثير التلفزيونات العربية بالتنظيرات عن «الخيار الاستراتيجي» العربي للسلام، بديلاً من المواجهة، منذ ما قبل مؤتمر مدريد. وحين أصرّ ياسر عرفات على إزاحة الوفد الفلسطيني المفاوض برئاسة حيدر عبد الشافي وإدارة المفاوضات بنفسه (وذلك لأجل مقتضيات الزعامة على «النظام العربي» الجديد الذي وُلِد من هذه المفاوضات)، كان عليه أن يعلن انتهاء المواجهة بالعربية والإنكليزية قبل قبوله طرفاً مفاوضاً.
وعندما اكتشف أبو عمار ضحالة المعروض عليه وفضّل الصمود في المقاطعة في رام الله حتى النهاية على القبول بأقل من الحد الأدنى المقبول فلسطينياً، كان قد أصبح لقمة سهلة بين فكّي شارون. أمّا مفاوضو اليوم من حكام الأنظمة العربية «المعتدلة»، فيبدو أنه ليس هناك من قعر لما هم مستعدون للوصول إليه والقبول به.
وتكمن أهمية الإنجاز الذي حقّقته المقاومة اليوم في إعطاء المثال للرأي العام العربي في كيفية التفاوض مع إسرائيل، وفي كيفية التصدي لمسؤولية استعادة حرية أكبر عدد ممكن من المقاومين اللبنانيين والعرب، وتقديم واجب الاحترام لجثث الشهداء منهم، وليس فقط لتحرير أسرى حزب الله.
أما على الصعيد الداخلي، فلا بدّ من إعادة مناشدة حزب الله مجدّداً العمل على حماية المقاومة من السرطان الطائفي اللبناني الذي استطاع طمس منجزاتها الهائلة في السابق، والذي نرجو ألا يستطيع طمس هذا الإنجاز اليوم. والعمل المقصود هنا هو عمل الحزب على ترميم صورته التي تشوّهت في أيار الماضي لدى المواطن اللبناني من الطوائف المختلفة (وليس لدى زعماء الطوائف المستعدين دوماً للابتزاز).
وفي الختام، لا بدّ من الترحيب الشديد بالبطل الرمز سمير القنطار، والقول له إننا بغاية الشوق إلى الدور الوطني الكبير الذي ننتظر منه أن يلعبه من خارج القفص الطائفي البشع، ولا بدّ أيضاً من القول إنّ أصعب وأجمل ما في الكتابة في أثناء تحرير الأسرى هو الاشتياق إلى الصديق الأعز جوزف سماحة، ومحاولة تخيُّل شعوره وآرائه مع تحقيق «الوعد الصادق».
* كاتب لبناني