رائد شرف *الإيديولوجية المهيمنة تتناقض بشكلٍ دائم مع نفسها. نرى رجالاتها ونساءها يتذرّعون أثناء مفاوضاتهم الطائفية بالصفات التمثيليّة وادّعاء «الغلبة» العددية. يتباهون «منتشين» بمنظر «عديدهم» في صور تظاهرة عمرها منذ ما قبل خيانتهم الانتخابية لجمهور هذه التظاهرة. ونرى في الوقت نفسه، الإيديولوجية المهيمنة تتهجّم على الحزب السوري القومي الاجتماعي، القليل المناصرين والتمثيل «العددي».
يحدث ذلك منذ ما قبل «غزوة» بيروت. فالحزب القومي هو طبعاً وقبل كل شيء، «عميل سوريا» في لبنان، وهو مجرم عين علق، وهو كل شيء ما عدا مسؤولاً عن سياسات وزارة العمل المجرمة في حق النقابات، فهذه مسؤولية للقومي تذكّر أنه كان يوماً في «خندق» الأغلبية الحريرية نفسها. على كلٍّ...
لكن مع مشاركة القوميين في ضربة المعارضة لـ«المستقبل» في أيّار الماضي، برزت الحجج الجديدة في التعاطي التحريضي مع الحزب الذي سبق أن أُحرق مركزه في منطقة الطريق الجديدة المطهّرة من «السوري» (كما طهّر الكتائب المنطقة الشرقية من «الفلسطيني»). هذه الحجج تصبّ في منطق تغذية منظومة رمزية، شمولية، تأتي بحجج «حياتية» لمناصري «المستقبل» أو من هم مهيّأون اجتماعياً للخداع المستقبلي في مواجهة حجج المعارضة السياسية.
قد يبدو غريباً هذا الاهتمام بحزب لا يمثل الكثير، طائفياً وسياسياً، وليس له قرار حاسم في تقاسم مقاليد الحكم والنفوذ. لكن ضربه يعني ضرب حلفائه في المعارضة، والتيار الوطني الحر كعادته يقع في فخهم و«يخجل» من حلفه مع «القومي».
وعلى صعيد آخر، تريد الإيديولوجية المهيمنة للصراع في لبنان أن يكون «أهلياً»، ولـ«الأهل» هنا صفة طائفية هي الأبرز. أمكننا أن نرى ذلك في أيار الماضي مع «زعْوَطة» المذيعة المجروحة من تسكير مورد رزقها «ليوم كامل!». أو في «تمرد» ذاك المذيع الآخر، المسؤول عن برنامج اجتماعيات. في الحالتين، كان الجواب «طائفياً» (باعتراف المذيعين)، «بعفوية» توحي بأن التفسير الطائفي للصراع هو الأصح.
كان من الطبيعي أن تكافأ المذيعة المؤمنة «بلا إله إلا الله» على حدّ قولها (والرئيس الشهيد حبيب الله، في تكملة «الشهادة»)، فتفتتح أول ساعات البث التحريضي للتلفزيون العائد. ويبقى أن نبارك لأنفسنا بهذا الوسط الإعلامي المشهر لطائفيته والمكافأ عليها.
في هذا الجو من التشنّج، حيث كل شيء اجتماعي أصبح طائفياً، يأتي بعض المثقفين الليبراليين على نبش انتقادات للحزب القومي مستوردة من تجارب غربية في النقد والموقف الثقافي. حزب «الزوبعة»، عند عشاق «المجتمع المفتوح» هؤلاء، ليس فقط فاشياً، بل هو أيضاً حزب «ذكوري». ربما أحسّ هؤلاء، في إشهارهم هذه الملاحظة المستعارة، أنهم أرستوقراطيون أو «فرسان» من دنيا قصر فرساي. هنا يُطرَح السؤال: هل اتّهام الحزب القومي منفرداً «بالذكورية» جائز موضوعياً؟ الإجابة هي طبعاً لا. وحسّ موضوعي بأولويات النقد (أي نقد) يقول، في وضعنا الراهن، إنّ «حزب مرتكبي مجزرة حلبا» يلبس، هو بامتياز، صفة... «الذكورية».
القيادات الرمزية للأحزاب تتحمل مسؤولية المجازر المرتكبة في غيابها. هي التي طوّعت، في طائفيتها الهجومية (تيار المستقبل والحزب التقدمي) أو في طائفيتها الدفاعية (التيار الوطني الحر وحزب الله)، أذهان «الجمهور» على إلغاء «الغير» عند من هو مستعدّ اجتماعياً من هذا الجمهور لممارسات العنف (وليس كل الجمهور بـ«مجرم نائم»).
هذا ما حصل فعلياً في نموذج حلبا، مع تيار المستقبل، وهذا ما قد يحصل مع حزب الله، والتيار الوطني الحر، إن لم يحذّروا جمهورهم، وثابروا في وضع «المستقبل» وجمهوره في الخانة نفسها، «سنّة»، أي في خانة «الغير»، متعاونين مع «رصّ الصفوف الطائفي» الذي يمارسه «المستقبل» في «مناطقه» لقمع الأصوات المتمردة.
من هنا نعود إلى مثقفينا الليبراليين، وموقعهم ممّا يحصل. يمكن العودة في تاريخ الصراع الاجتماعي بين القوميين والليبراليين العرب إلى زمن كان هؤلاء من اليسار أو العروبيين، وكان اليسار منظومة فكر ومواقف قابلة للتوسع الرمزي عند بعض البورجوازيات الصغيرة الجديدة النشأة في لبنان القرن العشرين.
يتمحور الصراع الحياتي، بين الليبراليين و«القومي»، حول تقاسمهم، دون غيرهم من الأحزاب، منطقة الحمرا البوهيمية بجامعاتها وحاناتها. في سلّم الرمزية الثقافية.
قبل اندلاع الحرب الأهلية، احتلّ الحزب القومي النقطة الأدنى، يليه الحزب الشيوعي، وفي قمة السلّم، يقع حزب البعث (بفضل بشير الداعوق)، ثم منظمة العمل الشيوعي. وذلك قد يفسر مضاهاتها الحزب الشيوعي الأكثر عدداً من حيث المنتسبون في «تاريخ اليسار اللبناني» كما يُحكى.
مع انتهاء الحرب، تحوّل عدد كبير من «رفاق» اليسار إلى دعاة مراجعة لخيارات الماضي النضالي، ليصبحوا، ضمن تلاقي مصالح طبقي، في موقع المدافعين عن مصالح البورجوازية العنصرية الاقتصادية، ملبسين هذه المصالح زيّ «الحياة». لكنهم أخذوا معهم في تحوّلهم، تناحرهم مع «القومي»، في شكله الحياتي الصافي. فالحجج السياسية مثل حجة تحالف «القومي» مع كميل شمعون ضد الوحدة لم تعد تلبي في مرحلة ما بعد حبيب الشرتوني، وحجة تلاقي مصالح «القومي» مع مصالح البريطانيين أصبحت مضحكة في مرحلة ما بعد خالد علوان وسناء محيدلي... لكن يبقى أنّ الحزب ذكوري!
يجب عدم البحث مطولاً في منطق هذه التهمة، لأنه ليس فيه منطق. فالتناحر الحياتي هو من «ذوق» البشر، الواحد من الآخر. والعنصرية شكلٌ من أشكال التناحر الحياتي، وقمة ازدهاره «الصالون» (و«للقصر» صالونات).
تحوّل الليبراليون، وكان «الثابت» فيهم «صالونيتهم». هم مثل البورجوازية العنصرية، قرفوا الحرب (وفي هذا شيء من الصدق)، وقرفوا دخول اللاجئين الفقراء شارع الحمرا في الثمانينيات، «الأهل»، الذين لطالما ميزوا أنفسهم عنهم. والحقيقة أن هذه المجموعة من المثقفين، يصحّ عليها أكثر من غيرها مفهوم «الأهل» الذي أخرجته (ربما على شاكلتها)، لكثرة التناغم الثقافي و«الغيتوي» الفاضح بين أفرادها. ولتغطيتهم أكبر عملية انقلاب على الدولة وعلى الوطن في تاريخه الحديث، منذ نهب أرزاق 120 ألف عائلة بيروتية في وسط المدينة، وصولاً إلى السكوت العام عن سياسة الحكومات المتعاقبة المالية، المسببة والمنظمة للهجرة الجماعية التي يعيشها الناس. انقلاب حزب الله «شغلة هواة» مقارنةً بانقلاب «أهل الحياة».
طبعاً، لن نستسلم لهذا المفهوم المغري «ثقافياً» (لبساطته الصالونية)، ونحدّد أنه ليس كل الليبراليين يمكن وصفهم بالعنصرية، كما يفعل هذا الفكر التصنيفي. أصدق الليبراليين ليبراليةً، هو من بقي خلال أحداث بيروت في أيار الماضي صادقاً مع كرهه الأول في الثمانينيات للحرب والعنف في جميع أفرقائه، ولم يكتب طائفياً وتحريضاً في الصحف، وهو موجود، حتى في الجريدة الزرقاء. الذكورية سلاح الفقراء. هي ما يعود إليه من نحت جسمه الطعام المدهن والعمل الجسدي الشاق عندما يأتيه من هو «مسلّح» بالمنطق، أي من هو قادر على تحوير المنطق لمصلحته الخاصة، الغني الذي ارتكز عقله بالتأمل والقراءة وتذوّق الجماليات.
حال الذكورية الطبقية عند كثير من أفراد الحزب السوري القومي الاجتماعي لا تخفى على أحد. يشاركه فيها الحزب الشيوعي، وكل الأحزاب الشعبية. لكن القومي والشيوعي معرضون لسخرية على مظهرهم الطبقي أكثر من غيرهم، بحيث تصبح المسخرة الطبقية وجهَ نقدهم الوحيد، لأنهم في لبنان، و«الحالة العونية» معهم، أكثر احتكاكاً اجتماعياً من غيرهم بالبورجوازيات الصغيرة «المثقفة». هم والشيوعيون من عمل بجدّ أكبر، على التقريب بين البورجوازية الصغيرة والطبقات الفقيرة، بين المدينة والضيعة، بين الناس. فكيف بمناصريه، يخرجون من الحرب الأهلية والحزب ممزق من الانقلابات في داخله، ويدخلون في نظام الجمهورية الثانية، فيما الليبراليون في صالونهم كل «شغلتهم» مدّ الطائفية بالتكابر الطبقي.
* باحث لبناني