ندى بنجكجيلٌ نحن لم نعرف سمير القنطار إلاّ قضية. خاض الشاب عملية «جمال عبد الناصر» في نهاريا عام 1979، فاقتيد أسيراً إلى داخل فلسطين المحتلة. ومن نيسان 79 إلى عام 2008، غير قليل من الزمن مرَّ على غياب سمير الحاضر المتوهّج. شاخ جيلٌ وشبَّ جيل وسمير محاصرٌ بالصمت والعتمة وسياسة قهرٍ مُتقنة. أرادوا له العَدَم لكنه كان مبدعاً في صنع الحياة داخل الجدران الرطبة، يصرخ ساعةَ يريدون له أن يسكت، ويشتعلُ عزماً وثورة ساعةَ يريدونه أن ينطفئ. ولا مرّة كان مُقيّد الصوت أو خافت الكرامة والضمير. كان يهدم جدران العتمة بضوء قلبه، ويتفلّت بفكره إلى خارج الزنزانة، ويتنزّه، حتى في اللحظات التي كانوا يُلبسون رأسه الكيس الأسود.
سمير القنطار هو الثائر والحرّ المتمرّد على أساليب قهرهم. كانوا يتفنّنون في طرق عزله وكان الطليق دوماً يصنع لقباً يستحقه بجدارة «طائر الضوء».
ثلاثون عاماً لا فصل فيها بين الأوقات، تمرّ المواسم وتتعاقب الفصول ويزيد عمره العام تلو العام، لا شيء يتغيّر. لا مجال لأن يكسروه. ثلاثون عاماً تمتد فيها ساعات الليل ويكاد البحث عن الأُنس لا ينتهي. تولد رغبة دفينة للكلام عن حنين يعشّش بين الضلوع. سمير وكل الذين جرّبوا الأسر وسكنوا في الزنزانة... لا نافذة تنقلهم إلى نهارات فيها هواءٌ وشمسٌ سوى بالحنين، كان يلازمه من زنزانة إلى زنزانة كما معصم صموده. يحنّ لوطن غادره في العشرين ويكبر ويكبر حتى الخمسين.
لا رحلة له إلى الوطن إلاّ به. يستحضر بين الأمتار الضيقة شجر الجبل الأخضر، وحقول الأرض وعبق الورد، وضجّة الصيف والبحر، وهبّات ريحٍ في سهرات خريفية. وطَرْق المطرِ على العتبات والنوافذ والمزاريب والمواقد. ووجوهاً وأسماء وأماكن وأشياء. ترك عندها طفولة، أو مساحة من شباب. يسرح كمسافر. ولا يعود يرجع إلاّ ساعةَ تضيء في عينيه، يتلاشى أمامه كل شيء.
فوجه أمّه ملء الزنزانة. وحينها كيف له أن يظلّ هو هو؟ كيف بإمكانه أن يتغلّب على بكاء وهي الآتية تنبت جنبه لتنقّب له أشواك الوجع والتعب.
لا مجال إلاّ للبكاء يرتمي بين ذراعيها ويبكي. يبكي طفلاً وهي تمسح دمعه، وتترك دمعها... لأنها أُمّ. اليوم انتهى زمن البعد والغياب. انهدم الأسر ولا مكان أو زمان يفصل الوجوه عن بعضها. عاد الغريب إلى قريبه والحبيب إلى حبيبه، وسمير العائد بشمس حرية لم تغب عنه، وعبق زيتون متفرّدٍ من فلسطين.
نُسلّم على صوته المسكون بطلقة النصر ووجهه النديّ الفوّاح بالزهر. ولن ننسى له ثلاثين عاماً من غياب ومن شباب توزّع بين الزنازين وما لا يُعدّ من أرقام الزنازين. وأنه عاش الأسر حرية، وكان قضية كل قضية. سمير القنطار، اليوم نلقاك وعلى امتداد الغد نحن على موعدٍ معك، تحكي لنا إرث المراجل من البداية إلى النهاية.