غالباً ما تراه يتنقّل في «المثلث النحيف» الرابط بين مقاهي «سيتي كافيه» و «كوستا» و«بلو نوت». له فيه محطات أخرى في المكتبات، وحيداً أو دليلَ طلاّب. يحوم دوماً حول «المرأة التي يحب»، والتي لا يزال يساكنها منذ ثمانية أعوام
نوال العلي
يخرج من مكتبه في «المنظمة العربية للترجمة»، فله آخر يومه، جلوس طقوسي في «ليناس»، مقهاه المفضل في شارع الحمرا. حيث يجلس ساعات مراقباً حبيبته من خلال الزجاج. نحيل يحمل حقيبة صغيرة تظهره مصوّراً فوتوغرافياً. شعره متروك على سجيّته طويلاً مبعثراً، وغالباً ما يختار ملابسه بألوان شاحبة ترابية، ربما تذكّره بالصحراء التونسية التي جاء منها. زادت سمرته قليلاً وقد حلّ الصيف وأصبح الهواء رطباً، فتغيّر مزاج المدينة المؤثثة لجنون الثقافة والسياسة، ومزاعم الحرية.«بيروت هي المرأة التي أحبّ» يقول الطاهر لبيب. بيروت أعطته دفقاً وجدانياً أنقذه من الإحساس بالتراجع، والشيخوخة عرفها بالمصادفة، تماماً مثلما تحققت له احتمالات جميلة للحياة، إذ يبدو أن القدر أغدقه بكمّ من المصادفات السعيدة المدبّرة.
لن تجده جالساً أبداً مع عالم اجتماع مثله، «الزمالة» تشعره بالسأم والبرودة... إنه محاط دائماً بالنساء والشعراء والفنانين، ما يثير حفيظة زملائه، بل وغيرتهم أحياناً. لكن زوربا التونسي غير مهتم. أما سرّ شبابه الدائم، هو المولود سنة 1942، فـ «ذرة الجنون» التي عرف كيف يحافظ عليها. لم يتحول إلى عالم اجتماع بليد، ترك نفسه كما هو. بقي الطاهر القبلي المزاجي الذي أدرك فرديته في باريس 1968، حيث الحرية والثورة وتلاطم الأيديولوجيات. يشبه مدينة الأنوار ببيروته الآن. لكنّ السائد هنا ليس ديموقراطية بل «حرية ـــــ قراطية»، حسب المصطلح الذي يستعمله للإشارة إلى النزوع للحرية الفردية، بينما لا يكون الفرد نفسه حراً في قلب الجماعة.
في باريس مكث لبيب خمس سنوات. كانت أوروبا تكفّر عن سيئاتها الاستعمارية، وكان طلبة العالم الثالث موضع جاذبية... بل إن البشرة السمراء كانت «موضة» وليس تهمة. حتى عُرض عليه ذات مرة التمثيل في السينما، لكنه رفض لأن امرأة ستصفعه في المشهد: «لم يصدّق المخرج أن أطلب منه تغيير السيناريو لكي أرد الفعل على هذه الإهانة»!
تلك السنوات خاضها لبيب باريسياً بحق، عاش علاقات حب كثيرة، ثم تزوج امرأة هولندية التقاها مصادفة ووقع في غرامها. تعرف إلى لوسيان غولدمان ورولان بارت. أخذ عنه «لذة النص» وتعلّم منه أن لا يكتب إلّا بمتعة. لهذا فهو مقلٌّ في الكتابة، بل ويرى أن الخطاب العربي لن يتطوّر إلاّ إذا كفّت الأغلبيّة عن الكتابة! وإلى جانب عمله ناظر مدرسة، التحق بجامعة السوربون لإعداد أطروحة الدكتوراة.
لم يكن في نية لبيب الذهاب إلى فرنسا، فقد حصل في الأساس على منحة لدراسة التنظيم العائلي في أميركا. وقبل سفره بأسبوع وصلته رسالة خاصة من فرنسا يصفها بـ «اللطيفة»، طُلب منه أن يأتي إلى باريس، إذ من الممكن تدبير عمل له، هكذا بدّل الطاهر وجهته وركب المجهول.
بدأ الباحث الشاب التحضير لرسالة عن العمال المهاجرين في فرنسا، حتى اكتشفت صعوبة العمل معهم «بقدر ما كنت متحمساً للعمّال بقدر ما وجدت أنهم لا يستحقون الدراسة، وتنبّهت إلى أن ماركس البورجوازي لم يختلط بالعمال، وأن نضاله كان على الورق». تخلّى الطاهر لبيب عن الفكرة إذاً، وواصل سلوكه كبورجوازي صغير وماركسيّ النّزعة. وشاءت المصادفات أن يلتقى عالِم الاجتماع غولدمان الذي دعاه لدراسة بنية سوسيولجية لعالمٍ شعري محدد، وكان أن اقترح عليه عالم الحب. أليس هذا عالم صديقنا بامتياز، هو الذي يقدّم نفسه بوصفه «كائناً محبّاً» يحمل رؤية جمالية للكون؟ في عام 1974 ظهرت رسالته الشهيرة التي أقامت الدنيا ولم تقعدها «سوسيولوجيا الغزل العربي». هذا الكتاب الذي صدر بالفرنسية قبل أن تصدر عنه ثلاث ترجمات مختلفة إلى العربية، ليصبح من المراجع الأكاديميّة المعروفة.
لا يزال الطاهر لبيب كما كان شاباً، يمكنه أن يلغي موعداً رسمياً كان في طريقه إليه إذا التقى شخصاً عزيزاً أو إنساناً بحاجة إليه... وقد استنكف مرّة عن احتفال لتقليده وساماً رسمياً لأن طالبة كانت في حاجة إلى مساعدته.
هذه العلاقة التي جمعته بطلابه كانت مداراً للحديث والاستغراب. في الوقت الذي يُضرِب فيه الطلبة عن محاضرات أساتذة الجامعة لسبب أو لآخر، تغص بهم قاعة لبيب حتى تضطر الجامعة إلى وضع مكبّرات للصوت. ولا يقتصر الحضور على طلبة علم الاجتماع، بل يأتونه من كليات الطب والهندسة والآداب. وصل الأمر ببعض الطلاب إلى تأليف كتاب عن أستاذهم، بعنوان «الثقافة والآخر». وكتبت إحدى طالباته يوماً: «أنا غيورة منك، وأملي أن أجد نفسي في مكانك»، فردّ عليها مؤسس «جمعية علماء الاجتماع»: «هذا أجمل تقويم سمعته».
يقول طالب آخر: «إنه أستاذ خارج عن المألوف، يجمع في علاقته بنا بين صرامة المعرفة ودفء الإنسان فيه»... ويستعيد هذا الشاب كيف كان لبيب يقف على باب المحاضرة قبل عطلة الأعياد، يعطي نقوداً للطلبة الذاهبين إلى قراهم البعيدة.
ألا يذكّرونه بالطاهر؟ ابن «المزّونة» الذي هُيأ ليصبح راعياً مقابل خروف للعائلة، لكن والده أشفق على الصبي من مصير صحراوي بائس، فوضعه في الحافلة «حفنة ريح»، ولم يكن يعلم إلى أي مصير أرسل طفله ذي الأعوام الستة، إلى مدرسة تبعد عنه مئة كيلومتر، لا يعود منها إلى أهله إلّا في عطلة سنويّة طويلة، وغالباً ما كان يجدهم قد تنقّلوا، إنه الترحال.
كان لبيب مغموراً بحنان والديه: «رأيت أمي تجمع ما يعادل ألف ليرة لأركب الحافلة من القرية إلى المدرسة، وما لا أنساه أبداً أني رأيتها تبيع «الفليجة»، وهي قطعة من قطع خيمتنا بعدما شغلتها لشهور من شعر الماعز، وهذا مما يكاد يمس كرامة البدوي».
ولم يكد الطاهر يأخذ وظيفته الأولى في سلك التدريس، ويتقاضى أول أجر له (1961)، حتى كانت والدته قد غادرت هذا العالم وهي في ريعان الشباب. «منذ توفيت أمي أبحث عن نموذج لها في رأسي، لم أنفك أعمل على بنائه إلى اليوم، وكل من عرفت من نساء، وقد عرفت الكثير، هنّ أجزاء من هذا الصرح».
لا يبدو من مظهره أن الدقائق ثمينة بالنسبة إليه، ولا يتمسك بلقب علميّ إلا بـ «أستاذ جامعي». لا يحتفظ بما يكتب، ولا يكتب إلّا بدافع المتعة. على وجهه هدوء وسعادة تشوبهما دهشة وتوق لنهب الحياة حباً: «كل ما حظيت بإدراكه هو إضافة كان بالإمكان أن لا تحدث... وهذا ينتج عندي فرحاً دائماً فلا أعلق أهمية على شيء ولا ألتفت للوراء».


5 تواريخ

1942
الولادة في قرية المزّونة في الجنوب التونسي

1964
قرار مواصلة الدراسة الجامعية بناءً على نصيحة أستاذه في مدرسة المعلمين

1969
اكتشاف غرامشي بفضل لوسيان غولدمان

1974
صدور «سوسيولوجيا الغزل العربي» في باريس

2000
عيّنته «اليونسكو» رئيساً لـ «المنظمة العربية للترجمة» في بيروت.