أحمد هاشمفي الشارع طفل يبكي، فكل أطفال صريفا علّموها البكاء، ثم يقف متأملاً أمام منزله. سقفه يلامس أرضه، وشبابيكه أصبحت بعرض الحائط، وجدرانه كومة ركام تساقطت كحبة عنقود، والعمود الأساس انكسر، وإذ بامرأة ثكلى تنادي من بعيد، «يا علي جئت تفتش عن أبيك، لن يسمعك، وإذا سمعك فلن يلبيك، لن يعلو صوته في الحي بعد اليوم، انظر إلى البيت. ما زال حزيناً عليه»، وإذ بالجدة تجرّ قدميها خلف حفيدها، تقف على أطلال المنزل، الذي لم يحرك له ساكناً، علّها تشتمّ رائحة الأحباب وفلذات الأكباد.
في الجهة الشرقية من البلدة، ومن بين أشجار الزيتون وشتلة التبغ المجبولة بعرق الفلاحين والمرويّة بدماء أبطال المقاومة، تستقبلك جنة الشهداء، شهداء عدوان تموز 2006، يفوح أريجها مع كل طلعة فجر ونسيم صبح، يسطع نورها مع شروق الشمس، وتحكي سيرتها مع تغريدة كل عصفور. هي صريفا «الشهداء فيها أحياء عند ربهم يرزقون»، والأحياء على المقاومة يعاقبون.
تطل الذكرى الثانية للعدوان الإسرائيلي (تموز 2006) على لبنان، وصريفا بين همّين: الهم الأمني الذي ما زال يراود المواطنين من جراء الاعتداءات الإسرائيلية عبر طلعات الطائرات الحربية والتجسسية، التي تقلق راحة المواطنين واطمئنانهم، والتي لا تنتهي إلا بانتهاء دولة الشتات الصهيونية القائمة على الاحتلال والاجرام والقتل وغصب الحقوق.
والهم المعيشي الذي ينخفض نموّه ويتدنّى مستواه، ولن يتغير إلا إذا تغيرت سياسات الحكومات المتعاقبة.
لم تكن مجرد ذكرى على أهالي صريفا. آثار الاعتداءات ما زالت موجودة على أرض الواقع، تذكّرهم كل لحظة بالحرب، قد يكون التأخير إكراماً للشهداء.
عامان على العدوان، وآثار إجرامه شاهدة على أرض الواقع، الإهمال المتكرر ممن وجب عليهم إعادة إعمار ما دمّر، لم يعالج هذا الملف بشكل لائق وشريف، فالمعنيون يحتجزون أموال التعويضات المتبرع بها للمتضررين في بنوكهم، للاستفادة من فوائدها، لأن جمع المال بالنسبة إليهم أهمّ من كرامة الإنسان، وكأنهم يعاقبونهم على ما اقترفوه من ذنب مقاومة الاحتلال، والدفاع عن الوطن، والاستشهاد في سبيل ترابه وكرامته.
بيوت صريفا لمن لا يعرفها أو لمن يعرفها ويحاول تجاهلها هي عنوان للوحدة والمشاركة في الأفراح والأتراح، والتلاقي في السهرات، والمجالس العامة، اجتماعات متعددة الوجوه والانتماءات، نقاش ومجاملة، تحليل ومواقف، لكن اللقاء مقدس ولا تنازل عنه.
بيوت كانت مقصداً لمعظم الناس بمختلف فئاتهم، وكأن المؤامرة مدبرة لإقفالها، مقصداً للعلماء والأدباء والوجهاء، وأروقتها تغص بالوافدين، وعصرونية الشاي اليومية على «السماور»، والإرشادات الاجتماعية، والمدرسة الأولى في البلدة التي علّمت بالقرآن الكريم جميع الفئات العمرية صغاراً وكباراً، أعطت دفعاً قوياً لمعظم الأهالي بتعلم القراءة والكتابة، للانطلاق إلى الحياة العملية وشق الطريق إلى نور العلم والابتعاد عن الجهل.
وبيوت كانت ملتقى الأضداد، قلما تجد بيتاً هكذا، وكم ينبغي الحفاظ على هكذا منازل، اجتماعات دائمة لمختلف الأعمار، وموطئ قدم للزعامات السياسية، كنا نجتمع فيه صبيحة كل نهار أحد، بجلسة أسبوعية تجمع الشبان باختلاف انتماءاتهم ونستمع فيها لشتى أنواع الأحاديث الاجتماعية والسياسية العامة، وكل ما يدور ويجري في البلدة والجوار، قلما تجد بيتاً هكذا، بناه صاحبه حجراً حجراً من الصخر الأصم، وليت لهذه الأحجار ألسنة تتكلم حتى تحدثك عن التاريخ لأن الإنسان ينسى، وتذهب مع النسيان تلك الجلسات التراثية القيّمة.
ما زلنا، وكالعادة، نقصده صبيحة كل أحد، نقف أمامه، وكأني بقائل يقول: ممنوع الدخول، ممنوع الاجتماع، ممنوع الوحدة والمشاركة، يجب أن يبقى المجتمع مشتتاً متفرقاً.
استهدفهم العدوان الإسرائيلي، ونثر حجارتهم في كل اتجاه، وما زالوا ينتظرون استكمال التعويضات حتى يلملموا أنفسهم، علّهم يستعيدون شيئاً من الماضي ليؤكدوا للتاريخ أنهم مستمرون في العطاء.
وما زلنا ننتظر الدفعة الثانية من التعويضات على أصحاب المنازل المدمرة (200 وحدة سكنية)، لكن لا تعويض حتى الآن، لا الدفعة الثانية ولا تعويض عن المحال التجارية (240 مؤسسة ومحلاً)، ولا المزروعات (تلف محصول وتربة لـ800 دونم)، ولا الآليات (47 آلية)، ومزارع الدواجن و100 قفير نحل ونفق عدد من الأبقار والماعز، التي هي المصدر الرئيسي للرزق، ناهيك عن عدد من المنازل التي لم يتم الكشف عليها حتى الآن.
حتى الكوارث الطبيعية أصبحت الهاجس اليومي لحياة أهل القرية. لا تعويض عن أضرار الهزات الأرضية، فقط لجنة للكشف على بعض الأضرار، ولا تدابير احترازية، لما سينجم عن هزات متوقعة، لأن الفالق ما زال نشطاً، والدولة أذن صمّاء وأخرى طرشاء، عما يجري وكأن الشعب ليس لبنانياً!