ياسين تملالي *هذا ما يتبادر إلى الذهن عند قراءة التزامات الدول الأوروبية السبع والعشرين في المعاهدة: «تنظيم الهجرة القانونية بصورة تأخذ بعين الاعتبار أولويات كل البلدان الأعضاء واحتياجاتها وقدرات استقبالها»، «مكافحة الهجرة السرية، وخاصة عن طريق ضمان رجوع المهاجرين اللاشرعيين إلى بلدانهم الأصلية أو إلى بلدان العبور»، و«تشديد إجراءات المراقبة على حدود الاتحاد الأوروبي».
وتبدو نبرة النصّ أحياناً حربية صرفة، إذ نقرأ فيه مثلاً أنّه «على المهاجرين الموجودين بشكل غير قانوني على تراب أوروبا مغادرته»، وأنه على كل دولة من مجموعة السبع والعشرين «تطبيق هذا المبدأ تطبيقاً فعلياً والاعتراف بقرارات الطرد التي تصدرها أية دولة من المجموعة».
ولكي لا تبدو هذه الالتزامات على ما هي عليه ـــــ أي عنصرية فجّة تتعارض مع «ثقافة أوروبا الإنسانية» ـــــ عمل محرّرو المعاهدة على تغطيتها بغطاء رقيق من اللغو اللغوي، فتحدثوا عن ضرورة «إنشاء شراكة شاملة مع بلدان المهاجرين الأصلية بغرض تحقيق توافق الطاقات بين الهجرة والنمو». ولم يبالوا بأن هذه «الشراكةَ الشاملة» كانت المحور الأساسي لـ«مسار برشلونة» وأن التطرق إليها في كل مواثيقه لم يمنع تحوّلَه إلى مسار تعاون أمني بحت، هدفُه «القضاء على الإرهاب» وصدّ جحافل المهاجرين عن قلاع الشمال الميسورة.
تجدر الإشارة إلى أنّ فرنسا هي من اقترحت المعاهدة على شركائها الأوروبيين وبذلت قصارى جهودها لإقناعهم بمنافع استراتيجيتها البوليسية في مواجهة الهجرة السرية. وقد ذهبت إيديولوجيةُ الحكومة الفرنسية المتوجّسة من الأجانب أبعد مدى خلال المفاوضات حول الصيغة النهائية لهذه الوثيقة، إذ حاولت إلزامهم بعدم إقرار أية تسوية جماعية لوضعيات المهاجرين السرّيين. وهي إن فشلت في ذلك، فقد نجحت في إقناعهم بأن يفضلوا ما أمكن ذلك تسويةَ مثل هذه الوضعيات «حالة بحالة»، وإسنادَها إلى أسس «اقتصادية أو إنسانية» لا غير.
ولم ترَ الحكومةُ الفرنسية أي تناقض بين مفاخرتها بأخذ زمام المبادرة الأوروبية في مجال «مكافحة الهجرة غير القانونية» وخطابها المتحمّس عن تحويل البحر الأبيض المتوسط إلى «بحيرة يسر مشترك». من هذا المنظور، فإن المعاهدة تعطينا فكرة دقيقة عن الخلفية الحقيقية لمشروع نيكولا ساركوزي المتوسطي، وعن نيات الاتحاد الأوروبي من خلال تبنّيه. ويمكن تلخيص هذه النيات في عبارة واحدة: المتوسطُ خندق عميق يحمي القلعةَ الأوروبية من غارات فقراء الجنوب، العرب منهم والأفارقة.
وليس اللافت للانتباه سعي الاتحاد الأوروبي إلى تحويل هذا البحر إلى منطقة نفوذ أوروبية وسدّ منيع في وجه موجات الهجرة القادمة من ضفتيه الجنوبية والشرقية، فهذا في الحقيقة ما رمت إليه دوماً «الشراكةُ الأورو ــ متوسطية». اللافت للانتباه هرولة الأنظمة العربية للمشاركة في قمة باريس ورفضها الاتّعاظ بإخفاق مسار برشلونة الذريع. ولا تفسير لهذه الهرولة سوى رغبة هذه الأنظمة في تنويع تحالفاتها بغرض ضمان استمرارها. ذلك أن جانب الحليف الأميركي، منذ غزو أفغانستان، لم يعد يؤتمن. ألم يهدّد صقور البيت الأبيض في 2001 بتغيير الخريطة الجغرافية لأحد أكبر شركائهم في الشرق الأوسط، المملكة السعودية؟ ألم يصبح صدام حسين عدوَّ الغرب اللدود بعدما كان صديقَه الودود؟
هكذا إذاً تلتقي مصالح الرأسمالية الأوروبية التوسعية بمصالح الأنظمة العربية، ويذوب «الاستبداد الشرقي» في «الديموقراطية الغربية». «الديموقراطيات الأوروبية العريقة» تضمن أمن الأنظمة الأوتوقراطية الصديقة وتذود عنها ضد ثورات شعوبها وانتقادات الرأي العام العالمي. مقابل ذلك، تضمن هذه الأنظمة نفوذ أوروبا في البحر المتوسط وتحميها من هجمات المهاجرين الحالمين بـ«إلدورادو» جديد. وكما جرت العادة، فقد بدأت الدول العربية التنازلات قبل افتتاح المفاوضات. فمنذ أقل من شهرين، حذت الجزائر حذو جيرانها المغاربيين، فقامت بـ«تحديث» تشريعاتها الخاصة بمكافحة الهجرة اللاشرعية و«أقلمتها». وليس من المستبعد أن تليها على هذا الطريق مصر مبارك وسوريا الأسد.
في مسار «وحدة متوسطية» كهذا، أهم ما يميزه هوس أوروبا بتفاقم «خطر المهاجرين السريين» وتمثّل الأنظمة العربية هواجس أوروبا كما لو كانت هواجسَها، لا يُستبعد أن تكون إحدى دعامات «الاتحاد المتوسطي» الساركوزي «معاهدة أورو ــ متوسطية حول الهجرة» تكرّس دول جنوب وشرق البحر الأبيض في دور تتقنه أيّما إتقان: دور الشرطي المشغول بإرضاء رؤسائه طمعاً في الترقية.
* صحافي جزائري