تهدّد أزمة الغذاء العالم بأكمله، وفيما تختلف التحليلات بشأن أسباب الأزمة، فتعزى حيناً إلى تبدل المناخ، وحيناً آخر إلى إنتاج الوقود الحيوي، يظل السبب الرئيسي لها إغراق الأسواق النامية بمنتجات الشمال المدعومة حكومياً
إعداد: رنا حايك
قال هنري كيسينجر: «سيطر على النفط، تسيطر على الدول. سيطر على الغذاء، تسيطر على البشر». تختصر هذه الجملة الاستراتيجية الطويلة المدى التي تعتمدها دول الشمال والمؤسسات التابعة لها، وخصوصاً البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. فبينما تزعزع أزمة الغذاء العالم بأكمله، وتتحضّر أمم كان من الممكن أن تكون من أهم منتجي الغذاء لمواجهة نقص غذائي حاد، يبدو من المجدي فهم الأسباب الحقيقية وراء الكارثة.
فقد اختلفت تفسيرات الأزمة المستجدة وتنوّعت، فألقي اللوم على المناخ حيناً ، وعلى إنتاج الوقود الحيوي أحياناً. إلا أن التفسير الأصح يكمن في تحوّل الاقتصاديات التي كانت تحقق اكتفاءً ذاتياً في مجال إنتاج الغذاء إلى مستوردة للغذاء. وفي هذا المجال، يتحمّل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية جزءاً كبيراً من المسؤولية.
فالقصة ذاتها تتكرّر، أكان ذلك في أميركا اللاتينية، في آسيا، في الشرق الأوسط أم في أفريقيا: زعزعة استقرار المزارعين المنتجين بسبب برامج التعديلات الهيكلية التي يقرّها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وتؤدي إلى تدمير الاستثمار الحكومي في الريف، في مقابل التدفق الهائل للمنتجات الزراعية الأميركية والأوروبية المدعومة على الأسواق المحلية التي فتحتها اتفاقية منظمة التجارة الحرة بشأن الزراعة.
نتيجة لذلك، تدنّت قدرات الإنتاج الغذائي والاقتصاد الزراعي في تلك البلدان بشكل ملحوظ. وسجّل التراجع الأكثر مأساوية في أفريقيا، حيث حُوّلت البلدان من مصدّرة للغذاء إلى بلدان تستورده بالكامل خلال مدة تقلّ عن 40 عاماً.
لم تكن هذه النتائج وليدة الصدفة. فقد أعلن وزير الزراعة الأميركي جون بلوك خلال المفاوضات التجارية مع الأوروغواي عام 1986، أن «مبدأ أن تطعم الدول النامية نفسها أصبح مفارقة تاريخية تنتمي إلى عهد مضى. من الأفضل لهذه البلدان أن توفّر أمنها الغذائي باعتمادها على المنتجات الزراعية الأميركية المتوافرة بأسعار متدنية في معظم الحالات».
ما لم يقله بلوك، هو أن تدني أسعار المنتجات الأميركية يعود إلى الدعم المتزايد الذي تحظى به عاماً بعد الآخر، رغم أنه كان من المفترض أن تلغي منظمة التجارة العالمية اعتماد سياسة الدعم الحكومي على مراحل.
فمن 367 مليار دولار خلال العام الأول لإنشاء منظمة التجارة العالمية عام 1995، ارتفع مبلغ الدعم الذي تقدّمه حكومات الدول المتقدمة لقطاعها الزراعي ليصل إلى 388 مليار دولار في عام 2004.
في الوقت ذاته، تمنع المؤسسات المالية الكبرى حكومات الدول النامية من الاستثمار المباشر في القطاع الزراعي ومن دعم المزارعين، مما يؤدي إلى إضعاف القطاع الزراعي الإنتاجي.
يقع في صميم المشكلة، الاعتقاد الخاطئ بأن انسحاب الحكومة من قطاع اقتصادي يؤدي إلى التحرك التلقائي والفوري للاستثمارات الخاصة، وإلى حلولها محل الاعتمادات المالية الحكومية.
فالتجربة العالمية قد أظهرت أنه في قطاع الزراعة، أدى توافر غذاء رخيص الثمن وذي نوعية متدنية في الغالب يصدّره مزارعو الشمال المدعومون، إلى تجنّب مستثمري القطاع الخاص الاستثمار في القطاع الزراعي.
في الواقع، لقد أشار التقرير السنوي الحديث (2007) لـ«الهيئة العربية للاستثمار الزراعي والتنمية» إلى ضآلة الاستثمارات الخاصة بالقطاع الزراعي في العالم العربي.
ففي لبنان مثلاً، حيث جميع الاستثمارات الزراعية خاصة بفضل السياسات الاقتصادية الليبرالية التي مارستها الحكومة على المدى الطويل، لقيت محاولة إنشاء مصرف للتنمية الزراعية فشلاً ذريعاً لتمنّع المصارف الخاصة عن توظيف أموالها في القطاع الزراعي.
الموقف ذاته تكرّر في أنحاء عديدة من العالم. وأحد أهم أسباب تحفّظ القطاع الخاص كان انسحاب الحكومات وتمنعها عن أداء دورها الداعم الذي قد يطمئن المستثمر.
باختصار، لقد فاقم إنتاج الوقود الحيوي أزمة الغذاء العالمي لكنه لم يسبّبها. فقد كانت هذه الأزمة تتراكم منذ سنوات وتنمو، بينما تعيق سياسات منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي بشكل منهجي البلدان عن تحقيق اكتفائها الذاتي لناحية إنتاج الغذاء، وتشجّع، في المقابل، استيراد الغذاء من خلال تدمير هيكلية قطاع الإنتاج الزراعي المحلي.
تلقى السياسات التي تروّج لها مؤسسات، كالبنك الدولي ومنظمة التجارة الدولية، اعتراضات في كل مناطق الجنوب، بينما تمعن بلدان مثل لبنان في الانصياع لتعليمات مفوّضي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومندوبيهما.