زينة خليلالدنيا تغيّرت، وحثّت خطاها نحو القرن الـ21 مودعةً ذاكرتها، تاركة إياها في متحف للتراث. «حسم» النول الزوقي (نسبة إلى زوق مكايل) أمره و«أعلن» العصيان على الحاضر وعلى إرادة النسيان... ففي قلب السوق الأثرية للبلدة، «البندر» سابقاً، التي تتفاخر بكونها أول مصدّر للحرير والعباءات المطرّزة على النول، كان الموعد مع الحائك أنطون سعاده. فهو ورث حرفته «عن والده وأجداده وانفرد في مستوى التميّز في حياكة العباءات والجدرانيّات الكلاسيكيّة والحديثة، عدا عن الوجوه والنقوش الشرقية.
بالنسبة إلى «أبو يحيى»، النول ليس مجرد حكاية تُروى، بل جزء من الطفولة الذي استحال صندوقاً مشرّعاً على عالم من الخيال.. فالرجل قضى ما يزيد على الستين عاماً وراء النول، وما زال «متمترساً في ركن يفوح منه عبق التراث و«يضجّ» بالخيطان، أمام نول لم يقوَ على جعله يضيق بالأيام التي تأكل مجده الغابر يوماً بعد يوم...
ومن ذاكرته المليئة بالتفاصيل، يستعيد أبو يحيى مجد مهنته، كلازمة لا بدّ منها للحديث عنها.. فـ «النول انتشر، أساساً، في جبل لبنان.. وكان الرعيان الآتون من سوريا يغزلون العباءات وبيوت الشعر (مضارب البدو) والأكياس والمساند والبسط بخيوط من الصوف أو شعر الماعز». وما لبث أن اكتسب أبناء الزوق هذه المهنة التي تطورت مع انتشار تربية دود القز، بين القرنين الثامن والتاسع عشر، لتشمل العمل على الحرير المنسوج وما هي إلّا عقود حتى احتل «النول الزوقي» المرتبة الأولى بين «أترابه» في لبنان من حيث الإتّقان والإبداع والتفرّد. ويختصر أبو يحيى هذا التميّز بعبارة: «النول واحد، وطريقة استعماله .. لكن التنوّع يكون في الإنتاج.. وشهرة الزوق تقليديّة، قوامها جودة الحياكة ودقّة التصميم، لا كثرة الإنتاج».
بخبرة من عرف أسرار المهنة صغيراً فنقشت في ذاكرته، يتابع سعاده الشرح، مستخدماً مصطلحات من معجم المهنة: يتدرّج النول الزوقيّ، بتركيبته وآلية عمله، في إطار النول العربي المؤلّف من قسمين: دولاب ونول.. الدولاب الخشبي مركّز على «خنزيرة» تدار بواسطة «مسكة» للفّ الخيطان على «الطيّارة»، التي هي عبارة عن قفص مستدير يُلفّ عليه الخيط قبل أن «يكبّ» عنه ليلفّ على «مواسير» من القصب. ويكمل أبو يحيى الشرح بتعداد أقسام النول الستة وتطول لائحة المفردات المرتبطة بهيكليّة الآلة التقليديّة من «الدرّاج» إلى «الدفّ»، «فالمشط»، «والرمح» و«السجق» و«النير»...كلمات يزخر بها قاموس ابو يحيى الذي يختصر مراحل الحياكة بالقول: «يجلس العامل على قطعة من الخشب يستخدم فيها كل أجزاء جسده.. فتحت قدمه «دوس» يدوس عليه كي يحرّك المكّوك من اليمين إلى الشمال، ويحرّك «الدرق» الذي يوزّع النسيج الداخل إلى النول بحسب الشكل والسمك المطلوب من أسفل إلى أعلى.. لينتج القماشة».
وبعيداً عن مصطلحات عالم النول، وارتباطها المباشر والعفويّ بالأرض، يكشف أبو يحيى أن السرّ لا يكمن في آلة الحياكة، بل في مهارة الغزل، فـ «كلما كان الخيط دقيقاً رفيعاً، كان هو الأفضل»، ومن هنا جاء ارتباط المواصفات بالأرقام التي تبيّن سماكة «الغزول»، مثل «أبو 16 و21 و24»
ويفصّل أبو يحيى كيفيّة صنع العباءة، فيقول إنها «تحتاج إلى 6 أمتار بعرض متر واحد من القماش المنسوج على النول، قبل قصّه إلى نصفين متساويين، يخاطّان بشكل متوازن.. ثم يُطوى الجانبان قبل خياطتهما.. بعد ذلك، يأتي دور التطريز بخيوط من الحرير أو بخيوط مطعّمة بالذهب من جهة الكتفين والفتحات والمقدّمة».
يأخذ أبو يحيى نفساً عميقاً، ويسرّح نظره إلى البعيد، متحسّراً لأن مهنته التي أحبّها إلى حدّ العشق لم تستهو أبناءه الثلاثة، ومؤكّداً في الوقت عينه أن «النول لن يموت يوماً».. أمّا كيف؟.. فيلتفت نحو سعدى، رفيقة عمره و«تلميذته» في المهنة، مكتفياً بابتسامة تحسّر.