سعد اللّه مزرعاني *بكلام آخر، يمكن القول، إنّه ابتداءً من ربيع عام 2005، وبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وانسحاب القوات السورية من لبنان، تبنى الفريق المقرر في 14 آذار سياسة نقل لبنان إلى المحور الأميركي ومشروعه الشرق أوسطي الناشط من خلال احتلال العراق.
وكان ذلك يملي الانخراط في معركة واشنطن، لتغيير النظام السوري أو تغيير سياسته، على الأقل. والمقصود بذلك إزالة الاعتراض السوري الممارس ضمناً (خصوصاً) وعلانية، عموماً، على الغزو الأميركي للعراق، وعلى انعكاس الغزو على النظام في سوريا نفسها، وفي علاقاتها، وفي محيطها، وفي مصالحها...
لقد انقلبت الأمور بين لبنان وسوريا يومها (وإلى الأمس القريب)، رأساً على عقب: حلّت سياسة العداء محل الولاء، وحلّت القطيعة محل «وحدة المسار والمصير»، وحلّ التدخل اللبناني في الشؤون الداخلية السورية محل التدخل السوري في الشؤون الداخلية اللبنانية، وحلّ العداء لسوريا محل العداء لإسرائيل، وحلّت الوصاية الأميركية محل السورية.
وفي مجرى ذلك، طُرحت مسألة الحدود وترسيمها، ومزارع شبعا «واستعادتها» من سوريا، وفتح السفارات بين البلدين تأميناً لاعتراف سوري بلبنان وبواقعه وبسلطاته. وخلال أكثر من سنتين، كانت الاتصالات المباشرة بين فريق 14 آذار ودمشق، مقطوعة تماماً. وكانت العلاقات اللبنانية ـــ السورية والاتصالات اللبنانية ـــ السورية محكومة بأن تمر حكماً، بواشنطن!
ولقد استمرّ هذا الأمر يتمدد ويتفاقم، تغذّيه دائماً جرعات جديدة من الوعود والعهود، يقطعها الطرف الأميركي، في كل مرة تبرز مظاهر أو بوادر تغيير في السياسة الأميركية حيال دمشق. وكان الأميركيون يقسمون أغلظ الأيمان، بأن لبنان، بالنسبة إليهم، هو قيمة سياسية وحضارية وديموقراطية، قائمة بذاتها.
وفي مجرى ذلك، نشأ «أدب» و«ثقافة» الغزل الأميركي بالرئيس فؤاد السنيورة، «القائد» و«الرائع» و«الشجاع» و«المنتخب ديموقراطياً»... هذا دون أن ننسى قبلات كوندوليزا رايس التي كانت تغدقها دون حساب على وجنتي السنيورة المتلهفتين.
لكن المشروع الأميركي تعثر في العراق خصوصاً، وفي «الشرق الأوسط الواسع» أو «الجديد» (شيمون بيريز)، عموماً. ومع التعثر، بدأت واشنطن تسلك سياسة الاتصال مع كل من طهران ودمشق، بدل سياسة الفرض والإملاء وتبليغ الأوامر.
ثم جاءت توصيات لجنة بيكر ـــ هاملتون في أواخر عام 2006 (وبعد الهزيمة الأميركية ـــ الإسرائيلية في لبنان) لتؤكد على فتح الحوار مع الخصوم لا استمرار القطيعة معهم. وحملت الانتخابات الأميركية رئيسة مجلس النواب الأميركية بيلوسي، سريعاً، إلى دمشق، لتأكيد اعتراض الأكثرية السياسية والشعبية الأميركية، الجديدة، على سياسة إدارة بوش.
وها هي اليوم إدارة بوش ـــ تشيني تلفظ أسابيعها الأخيرة، بعدما لفظت الكثير من أحلامها، ومن أوهامها، ومن صقورها، وآخرهم وأبرزهم وزير الدفاع السابق رامسفيلد.
أشرنا إلى أن مبعوثي إدارة بوش إلى لبنان، وكبارها وصغارها في واشنطن نفسها، قد نجحوا دائماً بإقناع فريق الأكثرية النيابية في لبنان، بأنهم بصدد التحضير لعمل «كبير»، من شأنه إعادة الإمساك بزمام المبادرة. وغذّت حسابات أخرى لدى هذا الفريق، في الداخل، فكرة المبادرة إلى الهجوم، فكان القراران الشهيران في أوائل أيار الماضي. لكنهما كانا أيضاً «القشة التي قصمت ظهر البعير».
فقد تداعت وتسارعت التطورات (خصوصاً في 7 و8 من الشهر المذكور) في غير مصلحة فريق 14 آذار: انكشفت محدودية الدعم الخارجي، الأميركي والسعودي، وانكشف اختلال ميزان القوى العسكري والأمني لغير مصلحته، وخصوصاً في عرينه الأساسي، العاصمة بيروت.
فتح كلّ ذلك إمكان بدء مرحلة جديدة في العلاقات اللبنانية ـــ اللبنانية والعلاقات اللبنانية ـــ السورية. ما يعنينا هنا هو العنوان الثاني، الشديد الترابط بالتأكيد مع مسألتين على الأقل: العلاقات اللبنانية ـــ اللبنانية، من جهة، والعلاقات اللبنانية ـــ الأميركية من جهة ثانية!
ويبدو أنّ فكّ الارتباط الرسمي اللبناني (ذلك الذي استمر حوالى سنتين تقريباً) بسياسة واشنطن ومشاريعها في المنطقة هو المدخل السليم وحتى الإجباري، لبناء علاقات صحيحة لبنانية ـــ لبنانية ولبنانية ـــ سورية، أيضاً!
إن ذلك لا يعني أبداً، ويجب أن لا يعني، قطع العلاقات مع واشنطن. كما يجب أن لا يعني العودة بالعلاقات اللبنانية ـــ السورية إلى ما كانت عليه قبل الانسحاب السوري ربيع عام 2005.
إن إقامة علاقات سليمة مع سوريا هي مدخل أساسي، إن لم يكن الأساسي، لتأمين الحدّ الأدنى من المصالح اللبنانية بإزاء التطورات العاصفة التي شهدتها وستشهدها المنطقة. إن ذلك، هو، خصوصاً، المدخل الأساسي لتأمين حد أدنى من الاستقرار السياسي والأمني في لبنان.
وبديهي أن مسؤولية بناء علاقة سليمة بين البلدين، لا تقع على جهة لبنانية واحدة، ولا على الطرف اللبناني دون الطرف السوري. لقد دخل في قاموس المفردات السورية عن لبنان، الكثير ممّا كان ينبغي إدخاله سابقاً: التكافؤ، إعادة النظر في الاتفاقات. مراجعة العلاقات... إلى «بدء صفحة جديدة»، كما عبّر الوزير السوري وليد المعلم في زيارته الأخيرة إلى بيروت، حاملاً رسالة دعوة إلى الرئيس اللبناني من الرئيس السوري، لزيارة دمشق.
بند العلاقات اللبنانية ـــ السورية شديد الأهمية في عناوين الأزمة، بل الأزمات اللبنانية. وهو يقتضي جملة استنتاجات أساسية، في ما يتعلق بصحة موقع لبنان في الصراع العربي ـــ الإسرائيلي، وفي الصراع الدائر في المنطقة للسيطرة عليها وعلى ثرواتها وعلى موقعها، من جانب واشنطن. إنّه يقتضي أيضاً بلورة حدّ أدنى من التوافق الداخلي بشأن مفاهيم الهوية والعلاقات والسيادة والتوازنات الداخلية. وهو يتطلّب، إلى ذلك، وفي نطاق خطة واضحة وحريصة وتدريجية، معالجة الخلل في الوضع الداخلي اللبناني، ذلك الخلل الذي من خلال التمسك بالنظام السياسي الطائفي ـــ المذهبي، قد أضعف الوحدة الوطنية اللبنانية، والحصانة الداخلية، وشرّع البلاد مفتوحة أمام التدخلات الخارجية من كل صنف ونوع.
«بدء صفحة جديدة» كما قال الوزير وليد «المعلم»، لا يقتصر على طيّ صفحة السنوات الثلاث الماضية، بل يجب أن يعود إلى ما قبل ذلك بكثير، وأن يمتد أيضاً إلى المستقبل الذي يحتاج، ليكون مطمئناً للطرفين، إلى أن ينبني على اشتقاق معادلة جديدة لبناء علاقة متميزة وممتازة فعلاً...
* كاتب وسياسي لبناني