أنسي الحاجكما قد تُطلّ الفكرة متأخّرة دهراً، هكذا قد يُشرق الجَمال على المسافر المتأخّر، فيشعر أن حياته كانت مجرّد كلام. غير صحيح أن المرء لا يُعْجَب إلاّ بالأسمى منه، ولا ينجذب إلاّ إلى الأدنى. هناك أيضاً الأبعد عنه. لا تُصدّق أن كلّ شيءٍ يُستهلك، وأن ما يسحركَ اللحظة إذا حَكَكْتَه سيفرط بين يديك. تعزيات وتَعْميات. عندما تشرق الشمس ويهلّ القمر والسجينُ في قَبْوه، فلا الشمس شمسٌ ولا القمر قمر. عندما لا تصل يدكَ إلى ما يخلب عقلك، فهو أنت اللاموجود لا الهدف الذي يفلت منك. حين تدرك هذه الغصّةُ المرءَ يعاين الصدع بين الكائن وذاته، يلمس الدم بين الشعور والقبضة. ولا تفيد معرفة ذلك من قبل. ليس هناك من قَبْل. لا وقت لما قبل. ألَمُ الفراغ الذي يعتصر الأحشاء لا يحلّ إلا حين له السيادة. معالم الحياة هي علامات براثن هذه الفراغات. الجمال الهارب أمامك ينشبها فيك. الظلم والإرهاب ينشبانها فيك. الغيرة والحسد ينشبانها فيك. رميكَ الصوت في ثنايا العدم يَنْشبها فيك. النزول من الدلال ينشبها فيك.
أجمل الجمال لا ما يجهل ذاته بل ما يحسب أنه بشاعة. يا لخبث القائلين بجمال الروح! الجمال واحد، لا جسد ولا روح، الجمال هو هذا الوجه الذي بجماله هو روح النور وجسده، والنور السرّي الذي يغمره ليس مصدره الروح، بل هو هو مَصْدَر الروح. وأيّةُ روحٍ تبقى حين ينطفئ النور؟ ما أظلم الجمال! ما أظلم النور! النور الذي يَجْرح! الجمال الذي تعجز عن تجاهله! الجمال الذي شدّ ما يؤذيك حين تُغمض عينيك!..

هناك مَن يتنفّس فينا. تتنفّس فينا الجمرات التي كانت أرواحاً، الرماد الذي سيعود إلى الجوّ. تتنفّس الأفكار، وأقوى ما يتنفّس، نظراتُ عيونٍ التصقتْ بحيطان دماغنا.
هناك مَن نستضيفهم بالاستيداع، بالتقمّص، دون أن ندري. وهم يملكوننا باللجوء، بالصدفة، أكثر ممّا يملكنا مالكونا. الناسك المعتصم بصومعته في العلى، الساكت على هديره، المنقطع كحجرٍ معلَّق، ولو ظنَّ نفسه خالياً إلاّ من اللّه، هو أيضاً حقل تتنفّس منه كائنات كثيرة، أقلّها حروف صلواته.
مرّات لا يعود فينا إلاّ مَن يتنفّس فينا.
الكائنات الهاجسة، تومض وتَحْرق وراء الجبين، وهي في مكان آخر حرّة لاهية بريئة من كلّ دم!

يلوذ الرجال بانطباعاتهم حول أشكالكنَّ حتّى لا يستسلموا لطغيان الأجساد الحقيقيّة. أشكال أجسادكنّ، تدويراتها، تراقصاتها، ذات إيقاعاتٍ في الذهن تتجاوز طاقاتكنّ على فهمها، وتَغْلب مرارات الرجل في تجاربه مع الواقع. في كتابه «الأدب الكبير» يتوقّف ابن المقفَّع عند سذاجة الرجل في انبهاره بامرأة مجهولة يراها في الطريق فيحسبها، وقد توشّحت بنضارة ثيابها، غير مَنْ عرفهنّ، ذات كمالٍ حيث هنَّ ناقصات، وهَفْهفة فتّانة حيث بتنَ هنَّ مدعاةً لنفوره.
موجعةٌ ملاحظة ابن المقفَّع، لكنّ الموضوع ليس هذا بل أصل تجدُّد النظرة. كلّنا ابن المقفّع ـــــ إذا سَمَح ـــــ في الحَذَر من الخيبة، من فخّ الجديد ومن بلاهات السذاجة. الموضوع ليس فطنة العقل بل تجديد الهواء، والغاية هي الإفلات من واقع لا يعين إلى واقع نَصْنعه كي ننجو بقاربنا من الغرق، أو بغَرَقنا من الوعي، تبعاً لمنظارنا. ولو إلى حين، وقد يطول، يصمد الواقعُ المصنوع، بهمّة الموهبة وبراعات الفنّ. بإخصاب حقول الفَرْق. بمراقبة الذات وحماية الآخر من انفلاشها النَّثْريّ أمامه. بحراسة طفولته المستيقظة في رشده.
هذه المعجزة الهشّة هي ما يحتاج إلى احتضان، هي ما وُجد الخيال من أجله، ولعلّها هي التي أَوجدت الخيال. ليست القوّة في الواقعيّة بل في الحكاية. الجبّار هو جدّتكَ التي تحميكَ بقصصها من عفونة الأيّام.
هذا الوجه الذي تنبض له شرايينكَ، هذا الوجه الذي منه تنفتح الأبواب وعلى وهجه تومض نجوم الصدر، هذا الوجه الذي يُنسيك فوراً حدود الجَسَد الصغيرة والبائسة، هذا الوجه الذي سمّاه العرب المحيّا، سقف بيت الحلم، هذا الوجه الذي تتطلّع إليه، هذا الوجه الذي أتطلّع إليه، سأظلُّ أدور على ناري حتى يُلقي نظره عليّ.
وبَعْد النظر،
حاجةٌ إلى ما يشدّ الوسْط،
إلى إدامة النظر،
إلى إدامة تجدّد انطلاق الدروب من العيون،
حاجة إلى نورٍ أكثر، إلى نورٍ أقلّ، إلى بَضاضة الهواء، إلى اختبار الرقّة، إلى اختبار النعومة التي تحاول أن تقول: وَعْد، لن يكون هناك غير الإفراط والنسيان، النسيان والإفراط. وَعْد: ما إن تنتهي البداية حتّى نتبادل الضياع...

لا بدّ قبل الحركة من الانخطاف. قبل السير، قبل التحليق، قبل الغطس، الانخطاف. قبل العينين انبهارُ العينين. لا أعرف مَن يسبق الآخر، الشعر أم الحبّ. الحقد ربّما، أحياناً، كمكاشفة لا بدّ منها للمساترة. الحقد الذي يستمر إلى النهاية حقداً ليس أكثر من رتابة جافّة، من حَسَدٍ متحجّر. الحقد، البغض يصعد، ينزل، يهتاج، وبعد أن ينفجر، ينفسح الأفق. أفق يقول لك: املأني بما تختزن وراء نقمتك.
الثبات على جفاف هو موت. انظرْ إلى هذا الوجه الساحب أمامك، لن تستطيع حجب نظرك عنه. لينسحب نحوه فكركَ بلا تَباخُل. لتكن هيبة سحر اللحظة سياج هذا الحوار الدفين، المخنوق. في هذه اللحظة التي توشك فوراً أن تضيع، تجَمَّعتْ آمالك.
أفقٌ يقول لك: املأني.
فبعد أن تحرق الآفاق وتفرغها سوف تملأها.
هذا هو نداء واديكَ إلى قمّتك وقمّتك إلى واديك.

تتقاذفان، أيّها المجهولان، نور التوق، تضامن الزواليّة الرطب. إنه اللقاء الذي لا يُمحى، لقاءُ التبخُّر الذي لا يُمحى.
ذلّ الجمال أنّه لا يستطيع أن يُشْبه سائرُهُ وَجْهَه.
وجهٌ كوجهكِ يشرب الألوان شرباً، كما يقول الرسّامون، ولا يردّها عنه أو تمرّ فوقه. كان الفنان خليل الصليبي، على ما روى قيصر الجميّل لرئيف خوري، يقول، في معرض حديثه عن التماثيل الإغريقيّة التي كان اليونانيون يستعملونها في مقام الأعمدة لدعم السقوف، إنه لم يكن يتمالك نفسه مع هبوب الريح من أن يتصوّر أن الريح تلعب بفساتين البنات الرخاميّة في التماثيل. وكان الجميّل يفسّر ذلك بكون الأثر الفنّي الذي يُمثّل كياناً بشريّاً إنما «يعيش» مع ساعات النهار، يتبدّل ويتكيّف، فكأنه حيّ.
وجهٌ كوجهكِ غَلَبة. هو الذي أطلَّ من ثانية، هو الذي أطلَّ من سنتين، هو الذي سيطلّ بعد غدٍ. وجهكِ خَتْمُ الوداع.

لا تنظرْ لتُغْري بل لتشرب. لتغرف من انجذابك. اسبحْ في هواء بلا هويّة. أَنْعَمُ من جفون الرضيع هذا الاستغراق. هل شاهدت رضيعاً نائماً؟ دع ظلام غرفته بلا إضاءة، يكفيه الضوء المحيط بمهده، الضوء المتدفّق من روضة لونه، من ينبوع رقاده، ضوء الأصول. لا تنظرْ لتَمْلك بل لتطير، لتمتزج بالشلاّل، لتُلْقي روحك على خَدَرها...
وأنتِ، ابقي بعيدةً وأنتِ قريبة. هذا هو السرّ. مهمّة شديدة الوطأة عليكِ ولكنّكِ جُبِلْتِ من معدنها، ولا تستسلمي لإغراء التخلّص منها، فإن تنكّرتِ لها فعبثاً تُضاء المشاعل، عبثاً يَهمُّ حافز الحياة.
استقبلي في نصف الضوء، العري هو النصف الآخر. أبيحي الكَرْم في تحجّبه وحجّبيه في إباحته، وإن كان شريكك حسوداً فابهري نظره بمرآة جسدك الخَفيّة، فهي تَشلُّ ما تريد. المرآة هذه هي غير تلك: إنها هي فيكِ ولستِ أنتِ فيها.
لا تُظهري شيئاً من الحاجات البشريّة التي فيكِ. لا تَدَعيه يعرف من بشريّتك إلاّ ما اتّصلَ بما يؤجّج شغفه ويُسعّر إواره. لا تصدّقي أنكما متساويان! هو ابنك وأبوكِ وأنتِ مصدره وغايته، يجمع بينكما الفرق ويباعد التشابه.
لا تُشبهين حتّى بنات جنسك. لا محلَّ في مخيّلة المشتهي لتوأمين. كل ُّواحدةٍ فريدة إلى أن تزول، فإمّا العرش وإمّا الفراغ.
العدوّ هو الزمن. لا عدوّ إلاّ الزمن. أنتِ في أجْمَلكِ جَمالُهُ الوحيد، دعينا وإيّاكِ نغدره هنا، في ساعةِ غفلته، قبل أن ننام، وقبل أن يستيقظ...