فاس وجهة سياحية بامتياز، المدينة المغربية تسحر السائح بآثارها الإسلامية، ببواباتها. جامع القرويين من أبرز المعالم وأشهر المساجد في العالم... لكن زيارة فاس لا تحلو إلا من خلال الإقامة في رياض أندلسي
جلنار واكيم
«إن ذهبت إلى المغرب، لا تنم إلا في الرياض»، ستتلقفك هذه العبارة مراراً وأنت توضّب أغراضك نحو... حافة المحيط هناك في آخر بلد عربي في أفريقيا. قد تسأل بعفوية: «وما هو الرياض، فندق، أم ماذا؟»، وسيكون الرد بالتأكيد: «لا هو أجمل من الفندق... هو حلم».
كانت كلمة رياض تعني الحديقة التي تتوسط الدور العربية التقليدية. حدائق أو «جنّات» تميزت بها ـــــ بشكل خاص ـــــ الدور الأندلسية. وصارت هذه الكلمة تُستخدم للتدليل على البيوت المغربية التقليدية، وقد بدأ تحويل معظمها أخيراً إلى فنادق بغية الحفاظ عليها من خطر الهدم، ولتشكل نموذجاً حيّاً عن التاريخ العربي الأندلسي.
«لا تنم إلا في الرياض»... سيكرر زوّار مدينة فاس التاريخية، هؤلاء لن يخفوا الخوف الذي انتابهم قبل أن يروا هذه الدور، الأسئلة تتكاثر، وخاصة في أذهان الباحثين عن الراحة والرفاهية، سيسألون عن مدى صوابية قرارهم القاضي بالتخلي عن «غرفة في فندق معروف».
الرياض موجودة كلها في المدينة القديمة، حيث لا يمكن لأي سيارة أن تدخل. وتبقى الطريقة المثلى للتنقل هي السير على الأقدام، أو حتى على ظهر حمار يتنقل بالسائح في الأزقة الضيقة للمدينة القديمة. تحيط بالأزقة أسوار عالية جداً، أسوار لا تفصح عمّا يوجد خلفها. فجأة يقع المرء على لافتة صغيرة كُتب عليها «رياض فاس»، إلى جانبها باب صغير وجرس، يقرعه، يفتح الباب، ويدخل...
كأنه انتقال بين عالمين. رحلة في الزمن إلى ماضٍ غابر وجميل، كالدخول إلى قصر المأمون في بغداد... أو قصر الحمراء في غرناطة يوم كان مقر الفنون والآداب والفلسفة...
كل شيء يشي بحنين إلى الأندلس «أيام عز العرب»: الضيافة ورهافة الفن من موسيقى وأدب وشعر وغناء وهندسة ورقص... وهذه المقوّمات تجعل من الرياض عالماً قائماً بحد ذاته، منفصلاً عن الحياة خارج أسوار الأزقة.
الزخرفة الأندلسية تزين كل مكان بدقة وبجمال لا يوصف. هنا فسيفساء باللون الأزرق. وهناك فسيفساء باللون الأخضر. وهنا كتابات من القرآن الكريم. وتتوسط الرياض نافورة مياه، كمنبع الحياة وسط الدار. هذه النافورة لا تعطي الماء وحسب، بل تضخّ هدوءاً وسلاماً في المكان، يجعله أقرب إلى فردوس على الأرض.
يطل الحاجب بلباسه المغربي التقليدي. حتى اليوم، ما زال المغاربة يحافظون على الزيّ التراثي ويرتدونه دائماً في حياتهم اليومية، في طرقات المدن يحضر الزيّ المغربي بقوة، حتى الملك محمد السادس ـــــ الذي تعلو صوره كل زاوية وكل مكان ـــــ يظهر مرة بالبذلة الأوروبية، وأخرى باللباس الأبيض المغربي.
إذاً، يأتي الحاجب، يقود الزائر إلى غرفته، وهي بالتأكيد ستشكل مفاجأة لعشاق الهندسة المعمارية التراثية. الغرف في الرياض زاخرة بالتفاصيل المعمارية والزخرفية المغربية (العربية بشكل عام)، كل شيء يذكّر بحقبات مضت: ألوان الجدران والأثاث، الأقمشة المرمية فوق السرير والمساند... حتى الحمام، صُمّم على طراز الحمامات المغربية. على فكرة لكل غرفة اسم أندلسي، ولكل واحدة طابع مختلف عن الغرف الأخرى. أما «العلّية» في «رياض فاس» فتطلّ على المدينة القديمة بأكملها.
لا شك أن دخول أي رياض سيغري بالبقاء فيه. وإذا تغلب المرء على هذا الشعور للتمتع بجمال مدينة فاس التاريخية، فإنه سيُفاجأ بإجابات تشبه ما يدلي به المهندس المعماري محمد الصفوري، إذا سأل السائح عن الأماكن التي تحلو زيارتها فسيقع على جواب واحد هو: «اذهبوا إلى «الرياضات» إنها أجمل ما تركه لنا أجدادنا».
إذاً، تصير خريطة التنقلات سهلة: يخرج السائح من رياض ليدخل آخر، يجلس في الحدائق، يستمتع بخرير المياه وبهدوء المكان وروعته. في كل جلسة سيتوقف الزمن قليلاً، لا بد من إجازة من «هذا العصر» للاستماع إلى قصص الرياض، والقصص تحكي تاريخ المدينة وتاريخ العرب. في رياض «شهرزاد» تتم أحلى الجلسات، فهذا الرياض يعدّ الأجمل في فاس.
بدأ الفرنسيون بترميم الرياض في المغرب قبل بضعة أعوام، وقد جذبت هذه الدور الأثرياء المغاربة، فشاركوا هم أيضاً في إعادة ترميم بعض الدور المهددة لأنها «أمكنة أساسية» للحفاظ على تاريخ يعتزّون به.
يقول أصحاب الدور والمهندسون المشرفون على ترميمها «إن التاريخ الأندلسي في المغرب أجمل مما هو عليه في إسبانيا. فالحياة ما زالت تدب في هذه الدور، فيما قصر الحمراء مثلاً تحوّل إلى متحف ففقد شيئاً من رونقه. ويضيفون أن عملية ترميم الرياض ساهمت في خلق عالمٍ بعيد عن تعقيدات الحياة اليومية، عالم يفخر بتاريخه وحضارته وتراثه.
الرياض «محملة» بثماني مئة عام من التاريخ. وقد تعرضت للإهمال لفترة طويلة. وتختلف أحجام هذه الرياض بحسب مساحة الدار الأساسية، وقد توازي مساحة بعض الرياض مساحة قصر ملكي يتألف من خمسين غرفة، كما هي حال «رياض فاس» و«رياض شهرزاد». أما عملية الترميم فقد تمت بطرق تقليدية، أي على أيدي الحرفيين المغاربة.
الرياض ليست للسياح فقط، كثيرون من أبناء المدينة يقيمون فيها كحال إبراهيم الوردي، الأستاذ الجامعي، يقول إنه لم يكن ليعود إلى المغرب لولا رغبته في العيش في الرياض. بعدما أمضى عشرين عاماً في فرنسا، جاء ليرمّم أحد هذه الرياضات ويقيم فيه. وهو لا يخرج منه إلا للعمل، وسرعان ما يعود إلى هذه الجنة الصغيرة.
وماذا بعد؟... ستمرّ الأيام ساحرة في فاس، المدينة احتفلت أخيراً بمرور 12 قرناً على تأسيسها، وما زالت الآثار الإسلامية شاهدة على تاريخ المدينة، من جامع القرويين إلى السور والبوابات الثماني. ومن يخرج من الرياض ليتجول في المدينة سيلاحقه حتماً السؤال الآتي: متى سيتمّ ترميم بيت ابن رشد، ومنزل ابن خلدون، وغيرهما من معالم المدينة المتداعية؟


مدينة خالية من المركبات

تعدّ مدينة فاس ثالثة كبريات المدن في المغرب،
إذ يزيد عدد سكانها على 1.7 مليون نسمة. وقد تأسست عام 808 للميلاد، على يد إدريس الثاني الذي جعلها عاصمة الدولة الإدريسية. تُقسم فاس إلى 3 أقسام، فاس البالي ـــ وهي المدينة القديمة ـــ وفاس الجديد وقد بنيت في القرن الثالث عشر، والمدينة الجديدة. اختارت اليونسكو مدينة فاس كأحد مواقع التراث العالمي عام 1981. تعدّ المدينة القديمة في فاس أكبر منطقة خالية من المركبات والسيارات في العالم