هؤلاء العائدون إلى الوطن، لم يغادروه يوماً. لا تصدّقوا ما يقولون على الشاشات، وما يروّجون في البيانات والخطب. القاطنون في الوطن غادروه، أما العائدون فهم بقوا فيه، متشبّثين حتى الأظفار والرموش على إدارة الانتقال وجعل العالم مكاناً أكثر أماناً
أسعد أبو خليل
العائدون إلى الوطن حلّقوا نحو فلسطين دون أن ترتفعَ أقدامُهم عن الأرض. يطيرون الهوينا ليلامسوا حيفا ويافا وعكا. هؤلاء لا تنطلي عليهم كذبة احتلال فلسطين عام 1967. يعلمون أن التاريخ المستحدث لاستعمار فلسطين مزوّر. وعندما يتحدث دحلانيّو لبنان عن تأييدهم لـ«الدولة المستقلّة»، وعن تأييدهم لمشروع الملك شخبوط (التطبيع مقابل أقل من ربع فلسطين ومن دون سيادة، مثل سيناء حيث يحتاج حسني مبارك (المُحنّط على طريقة الملوك الفراعنة) إلى إذن إسرائيلي لتحريك شرطي واحد، فهم يريدون تكريس احتلال فلسطين. هو حق العودة، الذي أيقظ هؤلاء العائدين من طفولتهم وبعثهم نحو فلسطين. العائدون من طينة قلّ نظيرُها في أيّامنا ـــــ وإن لم تنقطع ـــــ التي حوّلت دموع السنيورة إلى نوع من أشكال المقاومة (لم يجد السنيورة حرجاً في مديح دموعِه التي قال عنها إنها أفعلُ من الصواريخ). العائدون لا يعترفون بحدود، ولا يقفون بالصفِّ في المطارات، ولا يعرضون (ويعرضن) جواز سفرهم على أحد. هؤلاء يتحرّكون بخفّة... المناضلين. دلال المغربي لم تحتج إلى حقيبة سفر، ولا إلى إذن مرور. لم تحفظ سرّها، لا بل أفشته طفلةً. كانت قد أخبرت العائلة بأنها عائدة إلى فلسطين، وحقاً عادت، كريمةًَ عزيزةً من دون مذلّة «أوسلو». لم يستطع إيهود باراك أن يطلقَ عليها الرصاص أثناء رفعِها لعلم فلسطين في فلسطين. لكنه أطلق على جثّتِها الرصاص، فلم يصب مقتلاً. قل إنّها رصاصة المهزوم والمقهور. مَثّل بجثّتِها (قالت جيزيل خوري عنه إنه «عاين الجثة» فقط: إنه إعلام آل سعود الذي يحاول أن ينغّص حتى فرحة العودة والانتصار). جريدة «الشرق الأوسط» (هلّل لها مارسيل غانم في برنامجِه وقال إنها تعبّر عن الرأي العام العربي ـــــ لو حاول طارق الحميد أو عبد الرحمن الراشد قراءة ما يكتبان علَناً على جمهور عربي في ساحةِ أي مدينة أو قرية في العالم العربي لطاردهم الناس بنعالِهم) «الشرق الأوسط» عنونَت أن المقايضة (والعدو يعترف بأنها مهينة له) كانت باهظةَ الثمن... على لبنان. الإعلام الصهيوني يعترف بالهزيمة، والإعلام السعودي يصرّ على انتصار إسرائيل، مهما كان. مقايضات آل سعود هي أفضل، في نظر الإعلام النفطي الذي كان ينشر مقابلاتٍ مع مسؤولين إسرائيليّين بالسرّ، ولسنوات عندما كانوا يحدثوننا عن الملك فيصل وعن حلمه بالصلاة في القدس (مثل السادات)، على ما كشفت الصحافة الإسرائيليّة أخيراً. يقايضون أوطانَهم وسيادتَهم وعوائلَهم ودينَهم ومناهجَهم بابتسامة من بوش، أو إيماءة من أولمرت. هي مبادئ التفاوض الدولي الوهابي. إعلام آل سعود تجاهل عودة الأبطال وأنكرَها. أراد أن ينشغلَ عنهم برحلة استجماميّة للملك السعودي في مدريد، الذي قرأ (ببراعة طالب متلعثم ومتأتئ في مدرسة ابتدائية أو أقلّ) خطاباً أعلن فيه الحرب الشعواء على... الإلحاد. أُمر المدعوّون من شيوخ الوهابية بتجنّب أي تهجّم على إسرائيل والصهيونيّة، ورضوان السيّد كان هناك ليضفي على اللقاء الوهابي مسحةً... حضاريّة، وإن كان لم ينتهِ بعد من تفجّعه المُتلفز على وفاة الملك فهد.
هؤلاء العائدون، أحياءً وأمواتاً، يعودون إلى وطن لن يتبيّنوا معالمَه. ثلاثون سنة مرّت، ولبنان بات مختلفاً في قسماته ومعالمه وعناوينه. لا الوطن كان وطناً، ولا تقدّمَ في مشروع الوطنيّة البائسة. العائدون هم الوطن، والمقيمون هم الترحال. كم تغيّر لبنان عليكم، فليعتذروا منكم، وليتوقفوا عن ادعاء التضامن. نايلة معوّض في مطار بيروت تهنئ العائدين، وهي التي تقدمت بطلب نزع سلاح مقاومة إسرائيل في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تمعن قتلاً ودماراً وعدواناً؟ والذين كانوا أدواتٍ للاحتلال الإسرائيلي في لبنان يسيطرون اليوم على وزارة العدل. يحيا العدل في جمهورية الموز المطعّم بالأرز. البعض يريد أن ننسى، ولكن لن ننسى. والدولة اللبنانيّة، أو ما يُتّفق على تسميتِه اعتباطاً «الدولة اللبنانية»، دعت هؤلاء من الذين قدموا العون لإسرائيل وعدوانيّاتِها واجتياحاتِها إلى حفل التكريم دون أن تدعو ممثّلين لروّاد المقاومة الوطنيّة في لبنان: لممثّلي الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي وحزب العمل الاشتراكي العربي ـــــ لبنان (والأخير بادرَ إلى إنشاء جبهة المقاومة عام 1978 بعد الاجتياح الإسرائيلي، وإن غمط حقّه في الإعلام). سمير القنطار ورفاقه لا بد أنهم أصيبوا بالدوار عند وصولهم إلى لبنان. أما تبيّنتم جورج عدوان في المطار؟ هذا الذي كان يدير التحالف مع إسرائيل عندما كنتم تخطّطون للعودة إلى... فلسطين؟

أحلامٌ تضيق بها حارات الطائفيّة

ومقاتلو حزب الله الذين عادوا من الأسر بعدما واجهوا إسرائيل عام 2006 ماذا كان سيحلّ بهم لو تبنّت حكومة لبنان التوليفيّة صيغة 14 آذار للدفاع عن لبنان؟ هؤلاء كان سيُزجّ بهم في السجون اللبنانيّة لو أن الجيش اللبناني عاد إلى استراتيجيا المكتب الثاني (واسكندر غانم بعد المكتب الثاني) الدفاعيّة عندما كانت عقيدة الجيش تتخصّص في تسليح ميليشيات اليمين الفاشي وفي محاربة التنظيمات الفلسطينيّة واليسار، وفي حماية أمن إسرائيل من كل مكروه. لو أن الأمر بات في يد إلياس المرّ (الذي أصبحت كل جولاتِه وسياحاتِه بهدف الاستشفاء طبعاً) لكانت النيّاتُ العدوانيّة ضد إسرائيل جرماً يحاسب عليه القانون ـــــ قانون 17 أيار المعدّل. كارلوس إده ينادي بالحياد، وميشال معوّض زها كالطاووس عندما استجدى بول وولفويتز لأخذ صورة معه في واشنطن، وأحمد فتفت يدعو إلى تخزين الشاي بكميّات هائلة في ثكنات الجيش. هذه هي بوادر استراتيجيا لبنان الدفاعيّة الجديدة. لو تحوّلت استراتيجيا 14 آذار الدفاعيّة إلى سياسة الدولة الرسمية لرُفّع عدنان داوود إلى رتبة ماريشال، ولتقلّد بالأوسمة والنياشين، ولجالوا به على حصان أبيض مثل الماريشال جوكوف بعد انتصار الحرب العالميّة الثانية. قد يحصل عدنان داوود، مثل جون بولتون، على درع الأرز.
ماذا تقول للعائدين، وكيف تشرح لهم ما حدث في نهر البارد؟ أو كيف تشرح لهم قصة الغشاوة على ناظريْ وليد جنبلاط لعقود من الزمن؟ أنقول لهم إن لبنان تغيّر، أم أنه بالفعل لم يتغيّر؟ لم يتغيّر لأن الجيش اللبناني (أو جيش فينيقيا)، بعد أسابيع من غارة إسرائيلية في قلب بيروت عام 1973 (التي رفض قائد الجيش آنذاك، إسكندر غانم، إجراء أية محاسبة بشأنها)، شنّ حرباً بالطائرات على مخيّمات لبنان، وكان رئيس جمهورية لبنان آنذاك، سليمان فرنجيّة، يشاهد حرق المخيمات من شرفة قصره في بعبدا، محتسياً شرابَه المفضّل. لبنان آنذاك، عندما كان سمير القنطار ودلال المغربي ورفاقهما يستعدّون للرحيل إلى فلسطين من أجل فلسطين (لماذا تَختصر المقاومة في لبنان العناوين بمزارع شبعا؟ ذكّرهم سمير القنطار بأن الوجهة هي تحرير فلسطين، وأنه لن تقومَ قائمة للعالم العربي بوجود إسرائيل... في أحضان ملوك العرب ورؤسائهم، (كلهم دون استثناء، في الخنادق والمحاور المتنازعة كلّها، بمن فيهم زاعقو المُمانعة الفارغة. لن ينتهي الصراع بتحرير المزارع والتلال وقرية الغجر، بل سيأخذ شكلاً جديداً). كان لبنان في رحم حرب أهليّة ضروس، عندما غادرونا من دون وداع. يعود الأسرى ليجدوا أن هناك مَن أعاد كتابة التاريخ: مَن زعم أن الحرب الأهليّة لم تقع. يتذكّر سمير ورفاقه أن فريقاً من اللبنانيين كان جزءاً من مخطّط إسرائيلي منذ الخمسينيات من القرن الماضي، وتطوّر التحالف الإسرائيلي مع بعض اللبنانيّين إلى درجة أن مكتباً إسرائيلياً دائماً أُنشئ في لبنان، مقابل مكتب للقوات اللبنانية في إسرائيل (وأصبح سفير القوات اللبنانيّة في إسرائيل في ما بعد مستشاراً ماليّا لكل من ياسر عرفات وسهى عرفات).
سمير القنطار أتى إلى لبنان، وبدا كأنّه من كوكب آخر. حاولوا أن يُقحموه في صراعاتهم المذهبيّة والطائفيّة، وأدخلوه رغماً عنه في بازارات الاستيزار والنيابة. سمير يتحدث عن تحرير فلسطين فيما كان يخطب قباله حليف جون بولتون وإليوت أبرامز. سمير ينتمي إلى زمن تحرير فلسطين، والواقفون في المطار مدّعين الوقار ينتمون إلى زمن تحريرات بوش لمنطقة الشرق الأوسط برمّتها، هؤلاء الذين استجدوا حرباً تحريريّة أو اثنتين من بوش. لا المكانُ مكانُك ولا الزمانُ زمانُك، فعليكم تقع مهمّة تغيير الزمان والمكان. سمير بقي في فلسطين، يهدم بمعول ومنجل ومطرقة أسس الكيان الصهيوني ودعائمه. عندما كان رفيق الحريري يقف أمام المرآة يهنئ نفسَه بتراكم ملايينِه (كما روى على شاشة تلفزيونه الشخصي)، كان الفتى اليافع سمير يخطّط للعودة إلى فلسطين (ويحوّله الإعلام الصهيوني إلى قاتل أطفال، ويردّد الإعلام السعودي ببغائيّاً ما يقوله الإعلام الإسرائيلي، ولم تُفرج الحكومة الإسرائيليّة عن نصّ محاكمة سمير وشهادته إلا قبل أسابيع فقط. إنه عصر الملك عبد الله الإصلاحي الذي قال فيه الصهيوني البريطاني، عادل درويش، في جريدة الأمير سلمان بن عبدالعزيز («الشرق الأوسط») إن خطابَه المتلعثِم في مدريد تضمّن «فلسفة عميقة جديدة»). وعاد سمير القنطار ليجد أنْ حتى اسم المقاومة قد سُرق، وفعل «الشهادة» يُطلق اعتباطاً على كلّ من يتلقّى وصمة من قصر الوهابيّة في قريطم.
وسقط الإعلام العربي (السعودي والحريري) في فخ الدعاية الصهيونيّة (عن قصد). هم يقبلون التصنيفات الصهيونية «بلا كيف»، تلك التصنيفات التي تجعل ضحاياهم أثمن وأعلى شأناً من ضحايانا. ولّى هذا الزمن إلى غير رجعة، عندما كان لضحاياهم أسماء وعناوين وأهل وأمكنة، وكان لضحايانا الصمت واللامكان والأرقام. يريدون لنا أن نقبل باحترام إنسانيّتِهم واحتقار إنسانيّتنا، وحسن منيمنة (اليساري السابق) يدعو في جريدة «الحياة» إلى نسيان الصراع مع «أخوة في الإنسانيّة» في إسرائيل. واستضافت قناة «الجزيرة» (هي العادة المألوفة، أيها العائدون، التطبيع سار والمقاطعة ماتت بأمر سعودي شخبوطي) أكاديميّاً إسرائيليّاً في يوم عودة الأسرى. قال كلاماً لم يختلف حتى في تفاصيله وعباراته ومصطلحاته عن كلام أي مسؤول في 14 آذار. قال كلاماً مجتراً عن حبّ الحياة وعن الحضارة، وكاد يهتف بحياة الشيخ سعد. عندما طار العائدون إلى فلسطين، كان الحديث عن المؤامرة يعني مؤامرة إسرائيليّة ـــــ أميركيّة، واليوم أنصار تلك المؤامرة عينها ينفون وجود أية مؤامرة باستثناء المحور السوري ـــــ الإيراني. حبّ الحياة؟ هؤلاء الذين عادوا في أكفان أحبّوا الحياة أكثر منكم، أنتم الذين يتشدّقون بشعارات حب الحياة وكل الشعارات التي تردكم من الشركة نفسها التي تسوّق إعلانيّاً من على شاشة «العربيّة» للاحتلال الأميركي في العراق. مَن مات مِن العائدين مات «مضرّجاً بالحياة» كما وصف أنسي الحاج تشي غيفارا في «ملحق النهار» بعد اغتياله عام 1967. وتتحدثون عن الحياة وعن حبّها، أنتم الذين يشعلون فتناً طائفية ومذهبية بكلامكم؟
قد يُصاب سمير القنطار بالدوار لكثرة ما سيرى من تقلّبات ومن استدارات ومن حركات جمبازيّة. أَجلسوا المسكين بين زعماء طوائف. لم يبدُ في مكانه الطبيعي. القنطار كان يجول في سن الحداثة في منظمات فلسطينيّة بحثاً عن العودة. واليوم يتعرّف إلى زعماء طوائف يصرّون على تقبيلِه. كم كان المشهد نافراً في عبيه! لكنه لم يأبه. يتحدّث بلهجة الواثق. جلس القنطار يستمع لخطبِهم. المتصارعون أظهروا وئاماً مصطنعاً زائفاً. زعماء الطوائف بشعون في خلافاتهم، وهم أبشع كثيراً في حبّهم ووئامهم واتفاقهم. والذي كان قبل أسابيع يوصفُ بـ«القاتل والسارق والكذّاب» تلقى تحيات من منظّمة كان البيك ينعتُها قبل أسابيع بالإرهاب.
دلال المغربي انتمت إلى زمن لم يكن هناك فيه تصنيفات طائفيّة ومذهبيّة. كانت الطائفيّة سُبّة تُطلق على فريق القوات اللبنانية. في المقلب الآخر، حاولت الجماعة الإسلامية (الصغيرة جداً آنذاك) أن تطلي جدران بيروت بشعارات دينيّة، لكنها كانت مهمّشة، رغم محاولات أبو عمار وأبو جهاد لدعم التنظيمات والدكاكين الطائفيّة التي عاد رفيق الحريري وابنه من بعده ليحتوياها. اسألوا شاكر البرجاوي، حامي حمى بيروت. دلال المغربي وسمير القنطار تغزّلا بفلسطين لا بفينيقيا، أو بمدينة تل أبيب التي تغزّل بها بلال خبيز في «ملحق النهار». أزيلوا أعلام الأرزة اللبنانيّة عن العائدين. هؤلاء يستحقّون علم فلسطين. يليق بهم أكثر. الزمن ليس زمانهم، لكنهم مصرّون على العودة... إلى فلسطين.
وهناك من خذل القنطار والمغربي في الثورة الفلسطينية. تحوّلت من ثورة جورج حبش وكمال عدوان وأبو يوسف النجار وسمير الأسمر وغسان كنفاني إلى مسخ ثورة محمود عباس ومحمد دحلان وجبريل الرجوب (والأخيران تعرّضا للصفع من عرفات الذي وصف الثلاثة بـ«حميد كرزاي»). تنظيم جبهة التحرير الفلسطينية (الذي انضم إليه القنطار ليعود إلى فلسطين) تحوّل هو الآخر على يد ياسر عرفات وأبو العباس إلى دكّان، كما تحوّلت حركة فتح (بقرار من أبو مازن المُنتقى إسرائيليّاً) إلى مجموعة من العصابات الدحلانيّة المتعاونة مع الاحتلال الإسرائيلي. كم أساء إلى تضحيات القنطار والمغربي ورفاقهم ياسر عرفات هذا، ومن خَلَفه في حركة فتح. هذا الذي مثّل سلالات النفط في الثورة الفلسطينية ليفسدها. الوثائق الدبلوماسيّة الأميركيّة تكشف الكثير عن تدخّلات الملك فيصل في حركة فتح لخدمة أميركا وإسرائيل، حتى في أوائل السبعينيات. لو لم يكن ياسر عرفات قائداً للثورة، لتحقّق انتصار مبكر على إسرائيل عام 1982. كان عرفات يقضي على الأحلام الثورية لخدمة دبلوماسيّته الفاشلة التي انتهت به منبوذاً ومعزولاً (ومسموماً في ما بعد). كان عرفات يحارب الأنقياء في الثورة ويبعدهم، وأحياناً يقتلهم. هو الذي وضع الحاج إسماعيل على رأس خطّة الدفاع عن جنوب لبنان، مثلما وضع صدّام حسين ابنه قصي على رأس خطّة الدفاع عن بغداد. وسقط الجنوب وسقطت بغداد.
حسناً فعل القنطار بعناده. بدا مغايراً لخطابِهم. هم تعوّدوا التلوّن والزئبقيّة والاعوجاج («نحن التقلّب، ونحن التذبذب والباطنيّة»، كما قال نزار قباني في رثاء عبد الناصر). أما سمير، فهو هو. تتبيّن فيه ابن السادسة عشرة الذي حلّق إلى فلسطين، والذي لا يزال يسكن في مرحلة سياسيّة زالت أو أُزيلت بالقوّة. لم يكن زمن اليساريّين السابقين المثقل بالنفط السعودي قد أرخى سدوله بعد. لم يكن وليد جنبلاط قد استفاق من الغشاوة اللعينة بعد. كان اليساري السابق الذي يكتب عن ماركس ولوكاش في «السفير» لم يعلن في نشرة آل الحريري بعد أن زيارة سعد الحريري إلى بغداد هي أكبر انتصار عربي منذ فتح الأندلس. كان أحمد فتفت آنذاك يتقلّب في تنظيمات عروبيّة مناصرة للقضية الفلسطينية. أما سعود المولى فلم يكن قد كتب بعد وصايا محمد مهدي شمس الدين، الذي هادن حكم أمين الجميل حتى في حقبة 14 آذار المشؤومة. ولكننا لن ننظر برومنسيّة إلى ذلك الزمن لما فيه من بشاعة. نذكر أن بشير الجميل كان يقود سيّارة تحمل جماجم فلسطينيّة في صندوقِها، على ما روى شفيق الحوت في مذكّراته. نذكر كيف كان سامي الخطيب يعتمر قبّعة غيفارا في قيادتِه لقوات الردع العربية (وهو اليوم يزعم أنه، مثل غيره من أدوات النظام السوري آنذاك، قد حاربه النظام السوري الذي كان يصرّ على تعيينه في أرفع المناصب، مثله مثل ميشال المرّ وابنه إلياس).
سمير ودلال ورفاقهم انضووا في منظمات فلسطينية من أجل فلسطين، أما غيرهم فانضوى من أجل تعزيز مواقع ودكاكين وأزقّة طائفية ومذهبيّة. عادوا، أحياءً وأمواتاً، في استقامة وثبات. العائدون هتفوا من أجل تحرير فلسطين، والمتقلّبون هتفوا من أجل تدمير البارد. العائدون ما بدّلوا تبديلا، أما المتقلبون فيغيّرون شعاراتِهم بأمر، ويتنقلون برشاقة من اجتماعات مع إليوت أبرامز إلى اجتماعات مع نوري المالكي، ثم يدّعون فرحةً بلقياك. وحده بطريرك الموارنة لا يغيّر ولا يبدّل: لم يعبّر يوماً عن عداء لإسرائيل، ولا يتوقّف عن إظهار خشيتِه من أعداء إسرائيل. إنه مشغول دوماً بتأييد الإمبراطوريّة الأميركيّة والقوات اللبنانيّة، وأقام قداساً عن ضحايا 11 ايلول، ولم يقم قداساً يوماً عن ضحايا العراق وفلسطين. قد يشعر بأنه مدين للرجل الأبيض الذي أسبغ عليه «مجد» مسخ الوطن. لم يحِد البطريرك. العائدون نبذوا الحدود بين الدول العربية وطالبوا بالوحدة، أما المتقلّبون فيصرّون على ترسيم الحدود وتحديدها. العائدون ينظرون إلى الصّراع مع إسرائيل كبديهيّة وطنيّة، أما المتقلّبون فهم يحنّون إلى اتفاق 17 أيار ويثرثرون بالحياد على طريقة منظّر ما بقي من 14 آذار، كارلوس إده. العائدون آمنوا بثورة من أجل فلسطين ومن أجل العدالة الاجتماعية، أما المتقلّبون فيؤمنون بثورة من أجل نشر التأثير الوهابي ـــــ السعودي باسم التنوير والحداثة. نتمنّى ألّا يكون سمير قد خدش أذنيه بترّهات دوري شمعون في أسبوع العودة. رئيس الحزب الراعي لأنطوان لحد أعطى (في حديث على شاشة القوات اللبنانيّة) إسرائيل الحق في أسر «هؤلاء» لأنهم أرادوا تحرير فلسطين. واقترح شمعون تقسيم سوريا 5 ولايات طائفيّة، ولا من يلاحظ أو يعترض.
تعود دلال المغربي ورفاقها إلى وطن خجل من مناضليه. هو زمن «المجتمع الدولي» المشبع بالصهيونيّة. دلال المغربي انتمت إلى زمن كانت الثورة فيه تقول بتطويع المجتمع الدولي من فوهة البندقيّة، لا تطويع الشعب من فوهة مدافع الإمبراطورية الأميركية التي تدمِّر باسم المجتمع الدولي. كانت هناك حركة وطنيّة لم يبق منها إلا صدى غير مرجّح (وقد ماتت بإرادة النظام السوري وإرادة وليد جنبلاط). بلعهم حوت المال والنفاق والانتهازية، يا سمير ودلال. لكن الانتهازيّة تُعاقب معتنقيها من دون أن يدروا: فهي قاتلة للمواهب والإبداع. تنظر إلى يساريّين سابقين وتلاحظ زوال مواهبهم وترهّلهم الذهني والفكري بعد انتقالهم إلى فريق عمل مستشاري آل الحريري. تذكروا ذلك الخطاب المائع والباهت والفاشل الذي ألقاه طارق متري في الأمم المتحدة في حمأة عدوان إسرائيل. كانت أمامه فرصة العمر لدحض الدعاية والمزاعم الصهيونية، فسَقَطَ. دلال المغربي كانت في صفّ ثوار لم يميّزوا في ما بينهم على أساس الجنسيّات وجوازات السفر. أهانوا دلال عندما فرّقوا بين الجثامين: هذه تعود للبنان، وتلك لفلسطين، وتلك لتونس، وهلم جرا.
يعود سمير ليعثر على مكان له. لن يتسع المكان. فله من الأحلام ما تضيق به حارات الطائفية والمذهبية والشلليّة. ودلال تمنّت أن تُوارى في ثرى فلسطين. دلال لم تغادر فلسطين، منذ ولادتها. عنها وعن غيرها كتب مظفّر النواب: «هل تلد المرأة في الخيمة إلا جيشاً؟ إلا جيشاً».
* أستاذ العلوم السياسيّة
في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)