عندما يدخل الزائر هذه الشقة الصغيرة، يشعر كأنّه ولج مكاناً خاصاً، للزمن فيه إيقاع آخر: هادئ وصارم. نحن عند الأخ الأصغر لحسن البنّا، مؤسس «حركة الإخوان المسلمين» والمرشد الأول للجماعة... لكن له نظرة أخرى في شؤون الدنيا والدين
دينا حشمت
ليس في حياته شيء غير الكتب. هذا ما يحب أن يكرّره جمال البنّا لزائره الذي غالباً لا يحتاج إلى مثل هذا التأكيد، إذ يجد نفسه، فور دخول الشقة، محاصراً وسط جدران تصطف عليها كتب مرتّبة أبجدياً من الأرض حتى السقف. هذا المكان هو كلّ شيء بالنسبة إلى البنّا: هنا يقرأ ويعمل وينام ويأكل. «زمان كانت دي شقة برجوازية» يحكي البنّا، مشيراً إلى ما قبل وفاة زوجته سنة 1987. كان آنذاك يذهب يومياً إلى مكتبه الخاص. اليوم لم يعد يخرج كثيراً، فقد أقام معسكره الدائم بين الكتب. وعندما يأتي الليل ــــ أو «ميعاد القيلولة المقدّس» ــــ يفرش فراشاً بسيطاً لينام تحت الرفوف الثقيلة، التي تحمل أكثر من 15 ألف عنوان، من مجلّدات التفسير... إلى روايات محفوظ ويحيى حقي.
لم يعد جمال البنّا يخرج إلا عند الضرورة، لحضور أحد الاجتماعات، أو للمشاركة في حلقة تلفزيونية يتحدّث فيها عن آرائه التي أثارت الكثير من الجدل أخيراً. لم تستسغ المؤسسة الدينية الرسمية ما قاله عن فصل الدين عن الدولة، أو حق المرأة في إمامة الصلاة، أو غياب أي نص قرآني صريح يجعل من الحجاب فرضاً على النساء... «مجمع البحوث الإسلامية» التابع للأزهر صادر أخيراً كتابه «المرأة المسلمة بين تحرير القرآن وتقييد العلماء».
ليس هذا أول كتاب يُصادر له. كان الرقيب السياسي قد غضب عليه سنة 1952 بسبب تحليل قدّمه في «ترشيد النهضة»، يفيد بأنّ «ثورة يوليو» هي «انقلاب عسكري» وليست «ثورة». كما صادر «مجمع البحوث الإسلامية» كتابه «مسؤولية فشل الدولة الإسلامية» (1994). لكن لا يهمّ! فلتغضب المؤسسة الدينية الموقرة، وليستنكر زوار المواقع الدينية كتاباته «المارقة»، كل ذلك لم ولن يزحزح البتة قناعات جمال البنّا. يرى نفسه «صاحب مشروع» عبّر عنه في «مانيفستو المسلم المعاصر» الذي لخّصه بعشر نقاط في إحدى مقالاته الأخيرة في «المصري اليوم»: الإيمان بالله وبالرسل جميعاً، العدل، حرية الفكر، العمل على إحياء التراث الإسلامي... مشروع بلوره شيئا فشيئاً بفضل مجهود دؤوب في تكوين رأيه المستقل.
ربما تكوّن هذا الاستقلال ــــ هذا «التميّز» كما يسميه ــــ خلال مواجهته الفكرية والسياسية مع أخيه الأكبر، مؤسّس «جماعة الإخوان المسلمين». فعندما تكون الأخ الأصغر لحسن البنّا، أمامك حل من اثنين: إما التبعية، أو التصادم. لكن جمال البنّا أذكى من أن يختار التصادم مع أحد عمالقة السياسة المصرية، وفي المقابل، لا يحب أن يكون تابعاً لأحد. ثم إنّه أيضاً وريث تاريخ الأب «مصنّف أعظم موسوعة في الحديث»، وصاحب كتاب «الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني». هكذا ابتدع لنفسه طريقاً ثالثة، استطاع عبرها أن يعيش متصالحاً مع نفسه، ومحقّقاً طموحاته في آن. يتذكّر اليوم بشيء من الحنين مجادلاته الفكرية مع حسن البنّا الذي اغتيل سنة 1949، عندما كان جمال معتقلاً في سجن الطور في سيناء. حسن البنّا كان ــــ حسب وصف جمال ــــ رجلاً «مرناً جداً، واسع الأفق، وكثير الاطلاع». وهذا الأخ الذي يكبره بـ14 عاماً ــــ وكان ذات مرّة أستاذه في المرحلة الابتدائيّة في مدرسة الإسماعيلية ــــ كانت تربطه به «علاقة حميمة» قائمة على «تقدير متبادل»، كما تخلّلتها تلك الرغبة في الـ«تميّز».
التميّز عن أخيه، وعن الجماعة أيضاً. يقول جمال البنّا إنّه لم ينضمّ أبداً إلى تنظيم الإخوان المسلمين. ويظل يؤكد مسألة أساسيّة بالنسبة إليه، هي أهمية التفكير الفردي. إنّه لا يريد أن يكون مثل أخيه «زعيماً جماهيرياً»، لأن الزعماء «بقدر ما يقودون الجماهير، تمسكهم الجماهير، فلا يستطيعون أن يرتفعوا عن مستواها». هكذا قام بما لم يتمكّن أخوه الأكبر من عمله، بحكم وضعه السياسي. أعاد فتح باب الاجتهاد، ودعا إلى تنقية الأحاديث الصحاح. هكذا برأيه يمكن إنقاذ الفكر الإسلامي من الجمود و«التقليد». جمال البنّا لم يعد يرى فائدة في «الفكر السلفي الذي وضعه الأسلاف، الإمام مالك، أبو حنيفة، وغيرهما». ويتحسّر لأنّ علماء الدين المعاصرين «ما يتصوروش إن يظهر واحد يفوق هؤلاء، ما يتصوروش إن بدل ما مذاهب الإسلام تبقى 4، تبقى 5، أو 7». ويدافع جمال عن فكرة «الرجوع إلى القرآن مباشرة»، وعدم الالتزام «بكلام المفسّرين، من ابن عباس لغاية سيد قطب، مروراً بالطبري والقرطبي». ولا يشك لحظة في أنّ حسن البنّا ــــ لو كان على قيد الحياة ــــ «كان ممكن جداً آراؤه تكون قريبة من آرائي».
لا بدّ من «فهم جديد للدين»، فـ«الغرض هو الإنسان»، يقول جمال البنّا بأدائه الهادئ الرزين، أداء من لديه مواهب تربوية، ويريد باستمرار أن يتأكّد من أن مستمعه يتابع حديثه ويفهمه، فيعيد ويكرّر: «آمنوا بالإنسان. الإنسان هو الغاية، والأديان وسيلة».
الإنسان، والعدل أيضاً. قد يكون هذا ما يفسّر اهتمامه بالطبقة العاملة ــــ أم لعلّها، مرة أخرى، رغبته في التميّز عن حسن البنّا، حيث إن «قسم الإخوان للعمال كان أسوأ قسم»؟ انخرط جمال البنّا في العمل النقابي: «أنا لست عاملاً، هذا الجسم الضعيف، ولابس نظارة»، ويضحك. لكنه كان عضواً في مجلس إدارة النقابة العامة لعمال الغزل والنسيج الميكانيكي وملحقاته في القاهرة في سنتي 1951 و1952. تلك التجربة سمحت له بتأليف أكثر من ثلاثين كتاباً عن القضية النقابية، من الثقافة العمالية إلى الحرية النقابية... كما ترجم عن الإنكليزية العديد من الإصدارات عن تاريخ النقابات ووضعها عالمياً. لم تأخذه التجربة نحو الماركسية، رغم تعرّفه إلى طه سعد عثمان، ومحمود العسكري، العاملين القياديين اللذين تركا الإخوان لينضما إلى أحزاب شيوعية... إذ يرى أنّ «الفكر الماركسي ينفي الحرية، ويستبعد الإنسان»... وإن كانت «الرأسمالية لا تعرف العدل»، على عكس الاشتراكية. ويميّز البنّا بين «الاشتراكية الأولى التي ظهرت على يد أون وفوريي وبرودون، وكانت منفتحة وتدعو إلى العدالة»، و«الاشتراكية الثانية، نظرية مصمتة أرادت أن تهرب من الديناميكية الفردية، فوقعت في السلطة الدكتاتورية على يد لينين».
وهذا أكثر ما يستنكره الرجل الذي كتب أن «الإيمان والكفر قضية شخصية لا تدخّل فيها ولا إكراه عليها». وكون العالم لا يسير اليوم إلى مزيد من الحرية، بل إلى مزيد من الاحتقانات، لا يجعله يستسلم لليأس: «المعيار عندنا السلامة الموضوعية، وليس الشيوع. وضروري الوضع ده ينتهي. الكلام اللي إحنا بنقوله ده هو الأمل».


5 تواريخ

1920
الولادة في المحمودية
(الدلتا ــــ مصر)
1946
كتاب «ديموقراطية جديدة»
1951
تأسيس «الاتحاد الإسلامي الدولي للعمل»، وبعدها بسنتين «الجمعية المصرية لرعاية المسجونين»
1990 ـــ 1999
كتاب «نحو فقه جديد»
(ثلاثة أجزاء)
2004
كتاب «المرأة المسلمة
بين تحرير القرآن وتقييد العلماء»