وليد صلاح زغلولإنها لسعة توقظنا ونحن نرى ما آلت إليه حال أمتنا العربية، من تقهقر وضياع ونكسات وويلات وتخاذل، بعد رحيل رجل القومية العربية الصادق. فلولا غياب عبد الناصر لما تعرضت بلاد الشام وأرض الكنانة لما تعرضت له من مضار وعزلة بعد عهده. ولولا غياب عبد الناصر لما سبح لبنان بحمامات الدم، ولا تجرأت إسرائيل على اجتياح أرضه. ولولا غياب عبد الناصر لما اشتعلت حرب الخليج، والأمة الإسلامية تفني نفسها بنفسها. لولا غياب عبد الناصر لما استطاع دعاة الإسلام أن يزايدوا على ذبحه. ولولا غياب عبد الناصر لما افتقرت المنطقة العربية إلى مَن يسهر عليها، ويحمي كرامتها ويخلصها من الأعداء، ومن لعبة الدمار الذاتي التي تلعبها، ومن الانتحار البطيء الذي تمارسه.
فبعد غياب «أبي خالد» غاب الضمير العربي وذهب في سبات عميق... بل نستطيع أن نقول لقد مات ضمير العرب!
وحين يموت الضمير يصبح كل شيء مباحاً، كلام الزور، الخيانة، سرقة النصر، القتل والسكوت عنه. حين يموت الضمير يصبح طعم الدم لذيذاً كعصير البرتقال، تهون الأوطان ويزيّف التاريخ، وتصبح أصوات المدافع وهدم المساجد والكنائس على المصلين كقرع الطبول.
تنتزع الذاكرة من جذورها، ويصبح الجلاد بريئاً والضحية متهماً، تهاجر الحمامات البيضاء ولا يبقى في الجو إلا غربان تنعق صباحاً مساءً.
يتحول الإنسان إلى وحش كاسر ينتظر فريسة للانقضاض عليها، وتبدو المدن كغابات موحشة، فتصبح الإنسانية كلمة لا معنى لها ولا رديف...
يتحوّل الخاص عاماً والعام خاصاً، الحلال حراماً والحرام حلالاً، كما ينظر للأوطان مزارع عائلية والشعب كقطيع من غنم، فتغفو العقول وتثور الأحقاد وتتعطل إنسانية الإنسان، ويغدو صاحب عقل لا يفقه وصاحب عين لا يبصر وصاحب أذن لا يسمع وصاحب قلب لا يدرك.
لقد ماتت قلوب أمتي وهجرتها النخوة، وبيع الضمير الذي تجردت منه أرواحنا، وأصبحنا شعوباً وأوطاناً وأمماً بلا ضمير، فمتى سيستيقظ ويصحو من سباته... متى سيثور هذا الضمير، متى سيعبّر عن طموح الشعوب، متى ستنتفض الأمة في وجه أنظمتها، متى ستستعيد كرامتها المسلوبة؟
ويبقى السؤال: هل انتهت الناصرية وتبخرت مبادئها وأصبح نضالها شيئاً من التاريخ، بعد حركات الردة والثورات المضادة وتدجين الإنسان العربي للمشروع الصهيوني الأميركي؟
يكاد هذا الطرح أن يكون صحيحاً بالنظر إلى ما آلت إليه الأمة العربية، واختلاف موازين القوى في ظل هيمنة القطب الواحد على العالم.
ولكن الأحداث التاريخية لا يمكن أن تخضع لقوة مطلقة ولا لأوهام مسبقة، ولا لتنبؤات تصنعها القوى العملياء المستهترة بالشعوب، ولنا في الامبراطوريات التي عبرت التاريخ أدلة واضحة على ما نذهب إليه.
التاريخ عرضة للتغيّرات المفاجئة والمستجدات غير المتوقعة، وذلك ما تحتّمه إرادة الشعوب التي ترفض التسليم بالواقع، وتناضل من أجل تغيير الموازين، وتجديد المنطلقات والرؤى التي تصنع المستقبل. وللتدليل على ما نذهب إليه فإننا نترك الجواب لقائد الممانعة العربية في سوريا الذي يقف وحيداً في وجه المشروع الأميركي في ظل تخاذل وعمالة عربيين، ولأبطال المقاومة في جنوب لبنان الذين هزموا امبراطورية صهيون وهي في أوج قوتها، ولأبطال المقاومة في فلسطين والعراق الذين يصنعون من دمائهم تاريخاً جديداً لأمة ترفض أن تموت.
إننا بحاجة إلى عبد الناصر جديد، يعيد زرع بذور القومية العربية في أرضنا بعدما تفرّقت شعوبنا شيعاً وأحزاباً، وحملت ملايين الشعارات التي تنادي بالتفرقة والتباعد والحقد والعداء، وأصبحت تحركها فتن وفتاوى بعض رجالات الدين والعمائم والقلنسوات.
في خضمّ الواقع العربي هذا، نستحضر مبادئ الثورة الناصرية، ونستذكر تلك الانطلاقة القومية التي أضاءت أحلام الملايين وعقولهم وقلوبهم على امتداد الوطن العربي، وزوّدتها بمقومات الصمود والإيمان والثقة والوحدة.
نأمل أن يكون هذا الاستحضار بداية لنهضة عربية شاملة، تأخذ العبر والدروس من الماضي، وتنطلق نحو المستقبل وهي مزوّدة بالثقة والعزم والإيمان.
فاصحَ يا ضمير العرب... فما أحوجنا إليك يا «أبا خالد» وإلى 23 يوليو آخر في هذا الزمن العربي الرديء.