استجاب صاحب السحنة الفقيرة لطلبات زملائه الركّاب وأغدق عليهم المواويل، فغابت الهموم اليومية عن الأحاديث التي اعتادها ركاب سيارات الأجرة. أحمد محمد رجلٌ يحمل الزجل والغناء معه أينما ذهب: موهبة ظلمتها ظروف حياة قاسية
محمد محسن

امتدّ التعارف الذي بدأ في سيارة الأجرة، إلى تحديد موعد للقاء فضّل ابن الـ57 عاماً أن يحصل خارج منزله الكائن في محلّة «الضنّاوي». منزل ما زال في حالة حزن بعدما فقد الابن الأكبر، منذ ما يقارب ستة أشهر، فكان اللقاء على طاولة في أحد مقاهي شارع الحمرا بعدما أنهى «أبو نصري» عمله في مستودع إحدى المكتبات في الشارع ذاته.
فتح أحمد محمد عينيه على الحياة يتيم الأب، بعدما توفي والده عندما كان في التاسعة من عمره، فأجبرته الظروف كالكثيرين من أبناء جيله على الاكتفاء بالشهادة الابتدائية، وانطلق صغيراً إلى ميدان العمل في مصنع مجاور لقريته. كانت أغاني نصري شمس الدين «تملأ فراغاً يعيشه»، واكتشف ابن «دير بللا» البترونية موهبته عندما كان في الخامسة عشرة من عمره، فقد حفظ الكثير من أغاني ذاك الزمان (يا أم المنديل الأحمر، هدّوني هدّوني)، وغنّاها أمام المرآة بزهو.
يعتقد «أبو نصري» أن صوته «يشبه صوت نصري بنسبة كبيرة، ولو كنّا في بيتي لأسمعتك مواويل الميجانا والعتابا، ولن تستطيع التفريق بيني وبين نصري». ولا يخفي أنه حين اكتشف «درجة القرب بين صوته وصوت شمس الدين» شعر بأن فرصةً ما طرقت بابه، فجرّب أن يخرجها إلى العلن، لكن البيئة العائلية «المتأثّرة بالدين» لم تشجعه على الاستمرار. يقول الحاج أحمد «رفض أهلي أن أغني لأن الغناء حرام».
يسكت قليلاً، ويرتشف قهوةً بردت على وقع الحديث، في طقس بيروتي حار. يعود إلى انطلاقته قبل الغناء في الأمكنة العامة. يتذكر من شجّعه أولاً من باب «الاعتراف بالجميل»، وتلمع عيناه عندما يأتي على ذكر رفاقه في المصنع، يقول مترحماً عليهم «أغلبن عطاك عمرو، كنت أصغر واحد بيناتن». يذكر حين كان مطرب المصنع، «كنت أحيي السهرات والكثير منهم دفعني للتقدم أكثر في الفن». يعود للإجابة عن السؤال الأول «غنيت لأول مرّة في منطقة شكا الشمالية»، ويحدد أكثر: «على شاطئ الهري».
لم تكن المرة الأولى في شكا هي الأولى بالفعل، فقد غنى كثيراً في صغره، وهو يفاخر بـ«الجرأة التي يتمتّع بها منذ صغره»، جرأة لاقت استحساناً من بعض أهل البلد وابن عمه صديقه الأقرب.
مرّت الأيام وتحوّل الأمر إلى مهنة ثانية، ولم يكن هدفه من الغناء جني الأرباح، بل «عرض موهبتي قدر الإمكان، وفي الأصل سعر حفلة العرس التي أقيمها لم يكن مرتفعاً». قطع أحمد محمد شوطاً في الفن، لكنه لم يستطع الهروب من سطوة القفص الذهبي، وقبل أن يستكمل سرده علّل حبّه ببيت من العتابا قال فيه:
عهالدار دروب الحب مالو
وضع قلبي بوفاهم كل مالو
يا دلّو وطن ولا ديار مالو
شريد لو كان بيتو من ذهب
يبتسم ويتابع حديثه بثقة، فترة قصيرة وجاء أول العنقود. أسماه نصري «على اسم المطرب القدير نصري شمس الدين»، لينتقل الحديث إلى العلاقة التي ربطته بالفنان الراحل، والتي أخذت بعدين: الأول معنوي ظهر بين ثنايا كلامه عن المطرب الذي يحترم، والبعد الثاني مادي تجلّى في علاقة مباشرة. يذكر بابتسامة عريضة زيارته لمنزل الفنان شمس الدين في منزله الكائن في منطقة الكولا آنذاك، ويفتخر بشهادة إعجاب معنوية قدّمها شمس الدين بعدما «غنّيت له الكثير من المواويل»، معبراً عن امتنان عتيق للمطرب «الذي ظلمه عصره» يقول أحمد. يذكر حين قال له بطل «سهرة حب»: «قدّم وأنا بساعدك» فلم يتوانَ عن خوض تجربة استديو الفن لكن «المادة وظروف حياتي الصعبة لم يسمحا لي بالمتابعة».
ما زال «أبو نصري» يحتفظ حتى اليوم بما تيسّر من أشرطة لأكثر من خمسين عرساً، كان فيها مغنيّاً وعريفاً في الوقت نفسه، فلا تقتصر مواهبه على الغناء بل تتوسع نحو حفظ الشعر وتقديم حفلات المونولوج الشعبي، وفي هذا الصدد يؤكد أنه أدّى «أكثر من عشرين حفلة مونولوج». المونولوج هو أكثر ما دعاه للتعبير عن رأي الشارع في السياسة التي «أكرهها وأبتعد عنها». يصمت قليلاً كأنه يستذكر شيئاً، ويطلق بيتاً من الشعر رابطاً إياه بالوضع السياسي القائم:
حرقنا بلادنا الحلوة بدينا
وبديننا شو عملنا بدينا
ما بدنا ندين هالعالم بدينا
الدين للرب بيقول الكتاب
ويكمل ببيت آخر يوجهه رسالة إلى الشعب المختلف في ما بينه، لكنه قبل أن يبدأ أثنى على صاحب البيت الشاعر جورج دفوني «زغلول لبنان».
بعصر القمر بالدين لا تتعصبّي
مشيو سوا حجة وشيخ وراهبي
صفّا يقول الشيخ حبّو بعضكن
وصار أبونا يقول صلّوا عالنبي
الحديث عن الوضع السياسي المتشنّج حالياً، يعيد أبو نصري بالذاكرة إلى أيام الحرب الأهلية: السير من ملجأ إلى آخر، والعبور بين المتاريس، حدّا كثيراً من عمله الفني الذي استعاده بعد انتهائها. أوقف نشاطه الفني منذ سنة تقريباً، لكنّه مستعد لمعاودته فور تلقّيه أي دعوة، ويشترط أن يتضمن برنامج الحفل أغانيَ من زمن الأصالة، فهو كما يقول لا يغنّي «شو ما كان». ينتقد فن هذه الأيام «تطفّل على الفن وعرض أجسام فقط»، ويوضح أنه لا يقصد أحداً بعينه لكن «الظاهر إنو هيك الشعب بدّو».
علاقته بالشعراء كانت دافعاً لأن يحفظ الشعر بغزارة، ومع أن طموحه كان أن يصبح «مطرباً رسمياً»، لكنّه مقتنع الآن بذاكرة شعرية «ما بتخلص بأربع وعشرين ساعة إذا بلّشت». تأثر بشاعر المقاومة سميح حمادة، وبشعراء آخرين من الجنوب كان أبرزهم حسن سعد ابن مدينة بنت جبيل. ويفاخر بدعاية إذاعية أدّاها لأحد المطاعم في الجنوب، وكانت إحدى «تجاربي المتواضعة في الإذاعة».
لا يمكن لأحد أن يعرف المنطقة التي ينتمي إليها أبو نصري إلا إذا سأله عنها، ربّما يكون السبب بعده عن السياسة وكرهه وحولها، هو يحب «الفن الأصيل والليالي المرحة فقط». ترفض زوجته منذ فترة الذهاب معه إلى الحفلات التي يحييها هنا وهناك لأنها «متديّنة وترفض أن أستمر في هذا العمل». يحترم رأيها ويذهب وحده، فـ«يا ابني الفن فن والدين دين». المهم بالنسبة إلى أبي نصري هو «أن لا تؤذي أحداً، والدين معاملة».


خمسة ع سبعة

بعيدك ضوّيت الشمعة
وما في بشعري ولا لمعة
كل شي بهالدنيا تغيّر
إلا الخمسة ع سبعة
هذه «الردّة» الزجلية «طلعت» Live مع أبي نصري، عندما طلبت منه مقدمة برنامج «خمسة ع سبعة» في إذاعة صوت لبنان ردّةً للبرنامج في ذكرى ميلاده الذي كان أبو نصري صاحب سجّل حافل فيه وكان يتصل به ثلاث مرّات أسبوعياً