علي السقاكلما اقتربت أكثر من ذلك المنزل الجنوبي في بلدة دير قانون النهر، بدأت ذاكرتك بالانتعاش لتفيض بما اختزنته من صور لرجل كنت تجده مع طلوع كلّ صباح يهرول ناحية أرضه. فيما تجد الرجل نفسه اليوم جالساً مسنداً رأسه إلى الأريكة، خامل الجسد وخده الأيمن يسكن راحة يده، يخرج من صدره أنبوب بلاستيكي يلتحم عند نهاية طرفه بكيس مليء بمياه تميل بلونها إلى الأصفر. الأريكة التي يجلس عليها أبو حسن وضعت أسفل النافذة المقابلة للحائط الذي علّقت عليه صورة ولده الشهيد حسن قصير. «كان يحرس البلدة عندما استشهد» تقول والدته مبتسمة وتعود بالذاكرة إلى 12 تموز 2006 «كنا فرحين بعملية الأسر التي نفذتها المقاومة وما سيسفر عنها من تبادل للأسر». في الليلة نفسها عاد حسن إلى المنزل، استحمّ وقال إنه يريد قضاء الليلة مع رفاقه. مع حلول فجر 13 تموز استيقظت الوالدة على دويّ انفجار هائل، قفزت من سريري متجهة إلى غرفة حسن ولم أجده، عندها قلت في نفسي «راح حسن».
ندخل إلى المنزل برفقة الوالدة، نجوب غرفه، حيث كلّ ما فيه يدلّ إلى حسن: صوره، ثيابه التي لا تزال معلّقة في خزانة خشبية يستقرّ فوقها لوح تكدّست فيه الكتب والملفات أيام كان طالباً جامعياً. وبالقرب منها وضعت خزانة زجاجية من أربع طبقات تحوي شهادات وميداليات رياضية وكشفية، إضافة إلى الأورغ وبدلتي الخطوبة والكشاف وساعتَي يد. يستقرّ بجانبها حذاء أسود اللون ملوّث بتراب أبيض لا تزال إحدى فردتيه معقودة الرباط، وهو الحذاء الذي كان ينتعله لحظة قذفه الصاروخ ورفاقه في الهواء. من البيت نرافق أم حسن لزيارة ضريح ابنها في روضة «شهداء الوعد الصادق». تتناول قرآناً وتروح تتلو بعض آياته. لا تكتفي بالتلاوة، بل تتحدث إلى ابنها وتطلب منه أشياء كثيرة... تتحقق. كيف ذلك؟. «كنت قرب ضريحه مرة وقلت له «كتير حابه أسمعك عم تعيطلي يا ماما». في تلك الليلة «حلمت بأننا كنا نستقلّ الباص معاً، نظرت إليه وقلت له «يقبروني هالعيون شو حلوين»، وطرحت عليه السؤال مراراً: ليش استشهدت يا ماما؟ فأجابني «يا ماما شو قصتك؟» وكان يقولها بصوت عالٍ كما تمنّيت أن أسمعها منه.
أما الغرابة، فتكمن في ما سترويه لنا من قصص أخرى، «كان حسن يحب ابن أخته كثيراً وكان عندما يذهب لزيارة أخته، يحمل طفلها دائماً بين ذراعيه ويروح يلاعبه ويطبع القبلات على وجنتيه. كنت عند الضريح ذات يوم وطرحت عليه السؤال «ألم تشتق يا حسن لملاعبة ابن أختك؟» فجاءت جارتنا في الليلة التالية لتخبرني أنها رأت حسن في حلمها وهو يدخل بيتهم حيث كان الطفل موجوداً فركض حسن صوبه وحمله بيديه وراح يلاعبه قبل أن يقول لتلك المرأة «خذي الولد فأنا ذاهب إلى الصلاة في الجامع». والمرّة التي تذكرها أم حسن بمرارة هي يوم حدّثت ولدها وهي تبكي بحرقة لأنها لا تستطيع أن تعبر عن حزنها عليه بالصوم: «ليتني أستطيع يا بني إكمال حياتي بلا طعام أو شراب حزناً عليك». وفي اليوم التالي زارهم شخص من أهل القرية ليقول لهم إنه رأى حسن في نومه وطلب منه أن يخبر أهله «أنه حزين لفراقهم».
تصمت أم حسن عن الكلام لتمسح بيدها دموعاً انهمرت: «الحمد لله، باستشهاد حسن أصبحنا مرفوعي الرأس، لكنّني لا أخفيك أن المرارة والحزن لن يبرحا قلبي».


في عين الشمس

تغصّ روضة شهداء الوعد الصادق بأهالي الشهداء الذين يقارب عددهم العشرين. في اللحظة التي تحاول فيها أن تقرأ الأسماء التي حُفرت بعناية على شواهد قبورهم، كانت الشمس تلقي بخيوطها عليها جاعلة منها ألواحاً أشبه بمرايا تعكس الضوء الذي ينصب داخل عينيك كأنها تدعوك إلى التحديق في مسارها الذي ينطلق من الشمس ماسحاً شواهد القبور فيرتطم بها ويلتف عائداً إلى حالته الأولى كأنها تقول لك: «أبصر جيداً، هنا الشمس مسكن الحياة ونهايتها. ومن غادر الأرض فها هو هنا يرقد بسلام. اقرأ أسماء من كانوا بحياتهم يتحركون كالظلال وأصبحوا بموتهم نوراً يسكن عين الشمس».