ينهي «مؤسِّس» المحكمة الدولية الخاصة بلبنان مهامه كوكيل قانوني للأمين العام للأمم المتحدة، تاركاً وراءه مشروعاً لم يكتمل بعد، وقلقاً من التأثيرات السياسية على المحاكم الدولية، لناحية استمرار الإفلات من العقاب
نيويورك ــ نزار عبود
يغادر وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون القانونية، نيكولا ميشال، منصبه، ملقياً الكثير من الشكوك حول قدرة «المجتمع الدولي» على محاسبة القتلة ومرتكبي جرائم الحرب. وفي لقائه الصحافي الأخير، يوم الجمعة الماضي، قال ميشال إن التوفيق بين الحاجة إلى تطبيق العدالة وإشاعة السلام «يمكن أن يكون حساساً ومعقداً»، رغم إعلانه عن إيمانه بأن إصدار عفو عن جرائم الحرب والجرائم ضد البشرية والإبادة الجماعية أمر «غير مقبول».
منذ محاكمات نورمبرغ التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، والعالم يتغاضى عن الكثير من جرائم الإبادة الجماعية والحروب الكيماوية واستخدام الغازات السامة، في مناطق تمتد من فيتنام إلى العراق وتشيلي، مروراً بالشرق الأوسط وأفريقيا لاعتبارات سياسية محضة. بل إن الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، استقبل قبل أشهر قليلة سياسيين أدانهم القضاء بتنفيذ عمليات اغتيال سياسي.
وعرف العالم محاكم مثل كمبوديا ويوغوسلافيا ورواندا وسيراليون، لكن الكثير من الجرائم الجسيمة الأخرى ظلت بعيدة عن الملاحقة وعن أعين العدالة الدولية للأسباب السياسية عينها. ميشال استغرب محاولات فرض أحد خيارين اثنين، السلام أو العدالة، قائلاً: «كأن هناك تضارباً بين السلام والعدالة. وإنني أقول اليوم إنه لم يعد مقبولاً الوقوف عند حيرة من هذا النوع».
وشدد الوكيل الذي أشرف شخصياً على تأليف محكمة لبنان الدولية على ضرورة أن يكون المبدأ الذي يرشد الأمم المتحدة في هذا الصدد هو «الحاجة إلى إيجاد الظروف المفضية إلى تحقيق سلام دائم». وفي رأيه أن العدالة هي «جزء من تلك الظروف». وذكّر بالشعار الشائع، «لا سلام دون عدالة».
إلا أن الوكيل العام الذي تنتهي مهمته رسمياً في نهاية آب المقبل، ولم يعيّن بان كي مون من يخلفه حتى الآن، توقف عند ما كثر الكلام عنه عن «عدم جواز الإفلات من العدالة»، فقال: «ما يلفت الانتباه في الأيام الأخيرة هو وجود حالات يصبح معها الربط بين إحلال السلام وإنهاء الحصانة حساساً ومعقداً». وأشار تحديداً إلى الأوضاع في السودان وأوغندا وسيراليون وبوروندي. وتساءل: «هل تبدأ أولاً بخطوات نحو السلام والعدالة بينما تتقبّل الحاجة إلى التكيّف مع الأمر الواقع على الأرض؟».
ميشال الذي يحلم بغلبة العدالة على السياسة طرح إشكالية الحاجة إلى التفاوض مع المجرمين المفترضين أنفسهم. وقال: «ربما تكون هناك حالات لا بد لك فيها من أن تبعد أمراء الحرب عن الصورة لأنك لا تستطيع تحقيق السلام بوجودهم، وبالتالي تودّ توقيفهم. لكن علينا أيضاً أن ندرك أن هناك أوضاعاً تحتاج فيها إلى أطراف تتحاور معها من أجل التفاوض لبلوغ اتفاقية سلام. عندها، ما الذي سيحصل لهؤلاء؟».
هذا السؤال يصبّ مباشرة في قضية مثل موضوع السودان وتوجيه المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية، لوي ماريو أوكامبو، تهماً بالإبادة الجماعية وارتكاب جرائم حرب إلى الرئيس السوداني عمر حسن البشير، والطلب من هيئة المحكمة إصدار مذكرة توقيف بحقه، ثم عزمه أيضاً على توجيه اتهامات إلى بعض قادة المتمردين في دارفور لقتلهم ضباطاً وجنوداً من قوات حفظ السلام في الإقليم السوداني. وإذا أصبح البشير وزعماء المتمردين مطلوبين، فمع من يتحاور رجال السياسة والأمين العام للأمم المتحدة من أجل تحقيق السلام؟
نيكولا ميشال تحدث عن حالات جرى فيها التفاوض من أجل السلام مع مجرمي حرب ثم حوكم هؤلاء، قاصداً بالطبع بعض الزعماء في أفريقيا. لكنه نبّه إلى أن ثقافة عدم الإفلات من العقاب هي «ثقافة ناشئة وتحتاج إلى حماية». ونبّه أيضاً إلى أن التقدم على طريق تعميمها يسير بخطوات ضعيفة، قائلاً: «علينا أن نكون في غاية التأنّي في كيفية التعاطي مع الأمور الحساسة التي نمرّ بها، لأنه ما من شك في وجود خطر التعرض لانتكاسات، وأن تلك الانتكاسات ستترك عواقب وخيمة».
نيكولا ميشال أبدى خشيته في لقائه الصحافي من أن تصطدم العدالة الدولية بعقبات سياسية خطيرة، مثل إحجام الدول عن مواصلة تمويل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، ومن خطر بلوغها حالة إفلاس حقيقية كما حدث في محكمة سيراليون. ومحكمة سيراليون هي إحدى الحالات القليلة التي يطغى فيها القانون الدولي على القانون الوطني بموجب تفويض من مجلس الأمن الدولي تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وهذه الإشكالية قد تتكرر في المحاكم اللاحقة، عندما تشعر الدول في المجلس أن مصالحها باتت تتعارض مع أهداف القضاة بتحقيق العدالة.