اسكندر منصور*ثانياً: يجب تجنب استعمال صيغة المجهول إذا أمكن
وثالثاً: استخدام اللغة اليوميّة أفضل بكثير من استخدام الكلمات الأجنبيّة والمفردات التقنيّة الصعبة. فاللغة السيئة من وجهة نظر أورويل ليست سوى نتيجة لمستوى انحطاط الفكر وغموض الفكرة؛ فالوضوح في الفكر يقابله وضوح في اللغة، والعكس صحيح. فنتيجة للدكتاتوريات في أوروبا، يعتقد أورويل أن اللغة الألمانيّة والإيطاليّة والإسبانيّة قد فسدت وانحدرت مستوياتها خلال تلك السنوات؛ أي خلال فترة صعود النازيّة في ألمانيا والفاشيّة في إيطاليا، وصعود فرنكو في إسبانيا. كثيرة هي المفردات المستخدمة، في نظر أورويل، لا تحمل معنى محدداً. فكلمة «الفاشيّة» لا معنى محدداً لها اليوم سوى أنها تُستخدم للدلالة على «شيء غير مرغوب» ومفردات كـ«الديموقراطيّة» و«الاشتراكيّة» و«الحريّة» و«الوطنيّة» و«واقعي» و«العدالة»، كل واحدة تحمل معاني عدة وأحياناً متناقضة. فبنظر أورويل «يستخدم الخطاب السياسي للدفاع عمّا ليس قابلاً للدفاع عنه» كـ«استمرار الحكم البريطاني في الهند» أو «سياسة التطهير والترحيل في روسيا» أو استخدام «القنبلة الذريّة على اليابان» (السياسة واللغة الإنكليزيّة).

في اللغة العربيّة

لم تعرف اللغة العربيّة مفردات «غامضة» المعنى، قلّما تجد كاتباً في حقل الصحافة لم يحشرها في نصه في السنوات الماضية، كمفردات «الممانعة» ومشتقاتها («الممانع» و«الممانعون») و«المجتمع الدولي» و«الوطنيّة» و«السيادة» و«الاستقلال».
أصبحت هذه المفردات، وخاصة «الممانعة»، كلمة مرور إلى عالم الصحافة والكتابة. ما إن تدخل نصاً معيناً، وطبعاً في معرض الذم لا المدح، حتى يصبح الكاتب معروفاً في أوساط معينة بأنه/ها من أهل «الواقعية» و«الفكر النقدي» ومن الذين يقولون بـ«القبول بالآخر» ويقبلون بحكم «الشرعيّة الدوليّة» و«المجتمع الدولي»، وأيضاً ينتمي لأهل «التوبة» من عبء ماضيه اليساري ومن الرافضين لاستعمال اللغة «الخشبيّة»؛ وطبعاً لا ينتمي إلى عشيرة «المغامرين» الذين ما برحوا يتحدثون عن مقاومة الاحتلال، إن كان في فلسطين أو العراق أو لبنان، وعن حق العودة أو حتى عن الاشتراكيّة والعدالة الاجتماعيّة؛ ولا ينتمي أيضاً إلى الذين يودّون مقاطعة معارض كتب بمناسبة الذكرى الستين لـ«استقلال إسرائيل»/ احتلال فلسطين وطرد أهلها، لأنّ مقاطعة النشاطات «الثقافيّة»، حتى في مناسبة استعمار فلسطين وتدمير أكثر من 500 قرية وطرد أكثر من 800 ألف فلسطيني، لا تنتمي إلى نمط حياة الذين يريدون أن يكونوا جزءاً من «المجتمع الدولي». حسب تعريف الإيديولوجيّة المهيمنة/ إيديولوجيّة نهاية التاريخ.
ما معنى أن يقال عن أحدنا إنه ممانع وينتمي إلى فريق الممانعين؟ استوقفني هذا التعبير لأنني لم أجد له معنى دقيقاً، من خلاله نستطيع أن نعرف مواقف كاتب معيّن أو ناشط معيّن أو سياسي معيّن أو حزب معيّن أو سلطة معيّنة أو متَّهم معيّن. تساءلت كيف يكون أحدنا ممانعاً؟ ويليه سؤال آخر: ماذا يمانع الممانع؟ ما هو الشيء الذي يود أن يمانعه/ أي يعارضه ويتمنى له الهزيمة؟ ولماذا؟ هل «الممانعة» موقف سلبي فقط أم تطرح نقيض ما تمانعه؟
أن يسمّى معارض للمشروع الأميركي المتمثل بالعولمة المتوحشة في العالم العربي ممانعاً لا يكفي للدلالة على طبيعة معارضته ومنطلقاته الفكريّة. هل يعني ذلك أن معارضته تنطلق من مشروع حداثي علماني ديموقراطي أم من خلال مشروع قومي عربي بصيغته الناصريّة أو البعثيّة؛ أو من خلال مشروع إسلاموي شعاره «الموت لأميركا» و«أميركا هي الشيطان الأكبر»؟ هل الممانع للهيمنة الأميركيّة المتمثلة ببرنامج المحافطين الجدد على سبيل المثال، ببرنامج حداثي علماني يشارك الأميركيين ما ينطقون به من قيم، وإن كانوا لا يمارسون أكثر الأحيان ما يقولون به، ويرفض هيمنتهم العسكريّة والسياسيّة كالممانع الذي يقول بمقولة «نحن» و«هم».
هل الممانعة تيار تحكمه مواقف ورؤية ونظرة واحدة إلى الإنسان والعالم الذي يحيط بنا؟ هل الذي يودّ أن يرى العراق بلداً موحداً مستقلاً علمانياً ومحرراً من الاحتلال الأميركي ممانع كالممانع الذي يودّ أن يرى العراق بلداً موحداً مستقلاً طائفياً ومحرراً من الاحتلال الأميركي؟ هل الذي يودّ أن يرى العراق محرراً من الاحتلال الأميركي، يحترم حقوق أقلياته (وخاصة الأكراد) في تقرير مصيرها ممانع كالممانع الذي يودّ أن يرى العراق محرراً من الاحتلال الأميركي ولا يعترف بحقوق أقلياته (وخاصة الأكراد) في تقرير مصيرها.
هل الممانعون مسؤولون حقاً عن خراب «البصرة» ولولاهم لكنّا بألف خير؟ الهجوم غير المسبوق في الصحافة ووسائل الإعلام المرئيّة والمكتوبة على «الممانعين» يدلّ على أمور كثيرة، أقلها استقالة الفكر النقدي والنزوع نحو الأجوبة الخفيفة التي تقدّم لك جواباً لا يمكث طويلاً قبل أن تكتشف أن المشكلة ما زالت حية ترزق وقائمة. الذين يقولون إنّ المسؤوليّة الفعليّة لما يجري في عالمنا العربي بشرقه وغربه وخليجه تكمن في نهج قوى الممانعة (بالرغم من غموض هذا التعبير) كالذين، من الممانعين، يقولون إنّ أميركا مسؤولة مئة في المئة عما وصلنا إليه من انحطاط وتأخّر. إنهم يقرأون في النصّ نفسه الذي يدعو إلى استقالة واضحة من التفكير ويكمن فيه تغييب الأسئلة، وبالتالي تغييب الأجوبة وإحالتها إلى مفردات تحمل الكثير من المعاني والاحتمالات، فتضيع المسؤوليّة والمحاسبة. ومتى غاب طرح الأسئلة الصحيحة والضروريّة نصل إلى ما نحن عليه اليوم من انحطاط وانهيار في جميع الميادين. يقولون إنّ غياب الحريات السياسيّة سببه الممانعون. وعدم تحرير فلسطين سببه ممانعو غزة الذين (وإن كنا لا نشاركهم فكرهم السياسي على الإطلاق وأحياناً أسلوب مقاومتهم) يطلقون الصواريخ على المستوطنات (المستعمرات) الإسرائيليّة، وبذلك يعطّلون العمليّة السلميّة والانسحاب الإسرائيلي «الوشيك» على حدّ تعبير جبهة التصدي «للمانعة».
باسم التصدي لفكر الممانعة والممانعين نُبشت أفكار من القبور وأعيد الاعتبار إليها كأنها وحيٌ حلَّ فجاء بالحلول. فأصبح الميثاق الوطني خير ما أنتجته العبقريّة اللبنانيّة، وفكرة قوة لبنان في ضعفة ثمرة جهد لعبقري من لبنان لم يعطه اللبنانيّون حقه. فقائد جبهة التصدي للممانعة حازم صاغيّة كتب في جريدة الحياة: «عبقريّة، من دون أي مبالغة، عبارة بيار جميّل «قوة لبنان في ضعفه»، بل ربما أذكى العبارات ـــ المفاهيم التي وصفت هذا البلد الصغير في عمره القصير نسبيّاً وفي شروط استمراره» (الحياة 19 شباط 2008)، وقيل أيضاً على لسان متصدّ آخر للممانعين إنّ ثقافة الممانعة هي المانع الأكبر لحريّة التفكير في العالم العربي؛ وكأنّ وسائل إعلام قوى الممانعة المرئية والمكتوبة تغطي الوطن العربي وتنافس صحافة السلطان وفضائياته.
لم يكن نصيب مفردات «المجتمع الدولي» و«الاستقلال» و«الوطنيّة» و«السيادة» في خطاب جبهة التصدي للممانعة أقلّ مراوغة من مفردة «الممانعة». فتعبير «المجتمع الدولي» حلّ محل الولايات المتحدة الأميركيّة كأقل وطأة وانحيازاً، وخاصة في خطاب بعض قوى 14 آذار خلال حرب تموز؛ وتعبيرا «الاستقلال» و«السيادة» كانا يرمزان في خطاب 14 آذار إلى مرابطة مراقبين دوليين على الحدود اللبنانيّة ـــ السوريّة وقطع الإمدادات العسكريّة عن المقاومة، وأخيراً من خلال القرارين الشهيرين كانا يرمزان إلى قطع وسائل الاتصالات بين المقاومة وقيادتها. جاء الرد العسكري لحزب الله ليدخل تعابير جديدة على القاموس السياسي كـ: «عمليّة محدودة» و«عمليّة استباقيّة» و«عمليّة جراحيّة بالناظور». أما خلال فترة الوصاية السوريّة فبرزت تعابير عربيّة خاصة ذات معان مضمرة كـ«تصحيح العلاقة» و«تطبيق الطائف نصاً وروحاً» و«تموضع القوات في البقاع». لقد انتشر تعبير «تصحيح العلاقة»، وخاصة في مقابلات قادة الحزب الشيوعي وخطبهم. فكان ظاهر هذا التعبير يقول إننا حريصون على الوجود السوري في لبنان من خلال علاقة أفضل يغيب فيها التدخل في الصغيرة والكبيرة، وعلى قاعدة استقلال البلدين. أما باطنها المضمر والمسكوت عنه فيقول وجودكم أصبح عبئاً وغير مرغوب فيه، لقد آن وقت الرحيل.
* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتّحدة الأميركيّة