صباح أيوبلا يحب المسؤول الأممي أن يتوقف طويلاً عند مراحل طفولته والمراهقة. يبدو مستعجلاً للحديث عن المرحلة الأغنى من حياته، تلك التي بدأت عند مجيئه إلى لبنان. طفولته تتلخّص بمكان ولادته في أنقرة عام 1943. عَمَل والده ضابطاً في سلاح الجو التركي استدعى تنقّل العائلة بين غير مدينة تركية. هو الطالب الذي عرف دائماً ماذا يريد، فدرس «العلاقات الدولية» في «جامعة الشرق الأوسط التقنية» ــــ أنقرة، وراح يكتب لإحدى الصحف المحلية ويتابع الصحف الأجنبية.
عمل الشاب الجامعي
منذ 1968 عمل في مكتب المعلومات الحكومي، إلى أن عرض عليه أحد المسؤولين في «الأمم المتحدة» عملاً في المنظمة. تردد غوكسل بداية، فأغراه المسؤول بفكرة السفر إلى أثينا. هكذا، قبل الشاب المغامر بالوظيفة التي أصبحت في ما بعد «وظيفة حياته». وفي أوائل عام 1979، جاءه البلاغ الرسمي التالي: «احزم حقائبك ستنضمّ إلى قوات «اليونيفيل» في الناقورة». أجاب غوكسل: «أنا أعرف ما هي «اليونيفيل»، لكن فليخبرني أحدكم أين تقع الناقورة»! ويتذكر الابن الوحيد «عندما أخبرت أمي أنني ذاهب إلى لبنان، كادت تصاب بالسكتة القلبية».
نيسان (أبريل) 1979، حطّ غوكسل في مستوطنة نهاريا مكان إقامته. وكان عليه أن يجتاز الحدود يومياً إلى الناقورة حيث باشر العمل ناطقاً إعلامياً باسم «اليونيفيل». المنصب الذي كان مقرراً أن يشغله غوكسل لـ6 أشهر فقط، لازمه طوال الـ 24 سنة اللاحقة. «لم يقبل أحد بأن يحلّ مكاني، وخصوصاً بعد تعرّض اليونيفيل لعدد من الهجمات».
نجح المسؤول التركي بالتأقلم سريعاً مع مجتمعه الجديد، فـ«هناك قواسم مشتركة كثيرة بين المجتمع التركي واللبناني» يشرح غوكسل. ورغم الحروب والاحتلال الإسرائيلي للجنوب، لا يخفي المسؤول الأممي ولعه بعمله في تلك الفترة، بأهل الجنوب، وبالمغامرات التي كان يخوضها مع الصحافيين. يذكر أنّه في سجلّات «الأمم المتحدة» اليوم «مخالفة» بحق غوكسل، وهي «رفضه دخول القرى الجنوبية في مواكب أو مرافقة، وامتناعه عن ارتداء السترة المضادة للرصاص». ويروي أنه أطلق الرصاص على بزّته كي لا يرتديها.
في عام 1982، شعر غوكسل بأن هجوماً ضخماً سيحدث من الجهة الإسرائيلية، فأبلغ بعض الصحافيين الأجانب. ومن بين هؤلاء، مراسلة إيرانية تعمل لوكالة «أسوشييتد برس» كان غوكسل قد عقد قرانه عليها في الرابع من حزيران (يونيو). «كان مقرراً أن تقام لنا حفلة زفاف في الجنوب، لكنها ألغيت بسبب الاجتياح الذي حصل بعد يوم واحد من زواجي». زواج أوّل لم يدم طويلاً: «حصلت زوجتي على أفضل تغطية للاجتياح، لكونها زوجة مصدر المعلومات»!
وعندما تحوّلت الأضواء إلى بيروت بعدما حاصرها الغزاة الإسرائيليون، «ملّ» المسؤول المشاغب من البقاء في الجنوب، وقرّر تولّي إغاثة المواطنين، متخطّياً صلاحياته ناطقاً إعلامياً. الرجل العارف بمعظم الطرق الفرعية التي تصل الجنوب ببيروت، تقدّم ذات يوم موكباً ــــ كان حشد له من دون إذن رسمي ــــ ناقلاً المعونات للمحاصرين على شواطئ صور. في تلك المرحلة أيضاً نظّم رحلات مكوكية للصحافيين الأجانب بين الجنوب وبيروت.
ثم بدأت العمليات العسكرية للحركات والأحزاب المقاومة عام 1983. عندما يتحدّث غوكسل عن تلك الفترة تحديداً، تتغيّر ملامح وجهه. تتسع عيناه ويقول بنبرة إعجاب صريحة: «حوّل المقاومون حياة الإسرائيليين إلى جحيم. كان عملهم رائعاً»! بعد انتعاش الجبهة الجنوبيّة على مستوى المقاومة، شمّر غوكسل عن ساعديه، وبدأ عملاً ما زال يذكره المراسلون الأجانب إلى اليوم. ابتكر الصحافيون حينها مصطلح «رحلات غوكسل المقاوِمة» Goksel Resistance Tours، إذ كان المراسلون «يحجزون مقعداً» على متن «جيب» غوكسل، ليأخذهم حيثما أرادوا في الجنوب، ويعرّفهم بالوجه الحقيقي للصراع. كان الوضع أشبه بـ«سيرك إعلامي، أردت أن يكون الإعلام العالمي حاضراً كي يشعر الإسرائيلي بأنه لا يستطيع فعل ما يحلو له متى شاء» يشرح غوكسل. وبعد قيام «المقاومة الإسلامية» سعى الدبلوماسي التركي للتحاور مع «حزب الله»، ونجح في ذلك بعد تسلّم السيد حسن نصر الله القيادة. أما المحطة التاريخية التي يستذكرها الرجل بمرارة وغضب، فهي مجزرة قانا عام 1996: «لم نستطع إغلاق أبوابنا بوجه جيراننا من المواطنين. شعر الجنوبيون بالأمان مع «اليونيفيل»، لذا لجأوا إلى خيمهم».
حتى نهاية التسعينيات، مضى غوكسل بـ«إحداث ضجيج» حول القضايا المحقّة في المناطق المحرومة، فنجح بإمداد المياه والكهرباء إلى بعض القرى، كما حصل على مساعدات لخدمات إنمائية كثيرة. ثم في عام 2003 جاء وقت التقاعد: «لم أتردد كثيراً. اخترت البقاء في لبنان، إذ كنت أعرف أنني سأشعر بالملل في تركيا». يشرح غوكسل: «أصدقائي هنا. والكل بات يعرفني في هذا البلد. تخيّلي أني نادراً ما أدفع الحساب في «الروضة»؟ هناك دائماً من يسدّد عني من دون أن أعرف هويته حتى»!
في بيروت يمضي الرجل أياماً هادئة. سكن قبالة البحر. يعمل أستاذاً محاضراً في «الجامعة الأميركية»، ويقوم باستشارات استراتيجية. أما «مهمته الرسمية» الجديدة فهي... البحث عن مطاعم السمك والمازة اللبنانية الطيّبة! وليلاً يكون الزبون الدائم في بعض الحانات، فإن أضعته تجده دائماً في الـ«ريغوستو» في الحمرا أو في الـ«كايان» في الأشرفية. في حرب تموز 2006 حوّل غوكسل الـ«ريغوستو» إلى مكتب إعلامي، فاستقبل الصحافيين من جميع دول العالم على باره. وفي أحداث بيروت الأخيرة، كان المواطن المدني الوحيد الذي عبر من منطقة إلى أخرى، تحت القصف... بغية السهر في إحدى حاناته المفضلة.
غوكسل لا يزال «ينظّم» جولات إلى القرى الجنوبية، لكن ليس للصحافيين بل... لأمير وزينب. رزق غوكسيل بعد زواج ثان بتركية، ولدين، هما أمير (20 سنة) وزينب (19 سنة)، وحرص على تعريفهما بالجنوب وأهله. «عندما أقصد الجنوب يظنّ الأهالي أني عدت فيرحبّون بي، لكني أجيبهم بأني مجرّد زائر وسائح لا أكثر!». رجل الكواليس المشاغب والدبلوماسي حتى العظم له أصدقاء كثر، لكنّه أبى أن يسمّي واحداً مخافة أن ينسى آخرين... كما لا ينوي كتابة ما يعرفه عن أحداث لبنان الآن... لأنه يعرف الكثير.


5 تواريخ

3 أيار/ مايو 1943
الولادة في أنقرة
1979
تسلم مهامه في لبنان
1982
الاجتياح الإسرائيلي
بعد يوم من زواجه الأوّل
1996
مجزرة قانا الأولى
التي يتذكّرها بغضب إلى اليوم
2003
التقاعد قبالة
البحر في لبنان