يكاد التنقّل بواسطة الباص رقم 12 يتحوّل سفراً داخل جزء من الأراضي اللبنانية. ذلك أن التنقل على متنه يستغرق أكثر من ساعة أحياناً، يقتحم خلالها الباص مناطق «الصبغة الطائفية الواحدة» بعابرين كثر لا صبغة لهم إلا الفقر. بعض من يوميات رحلة على متنه
أحمد محسن
درجت العادة أن تكون تعرفة وسائل النقل العام واحدة وخصوصاً في الباصات، إلا أن الأمر تبدّل في الفترة الأخيرة بعد ارتفاع سعر صفيحة المازوت وصارت التعرفة تخضع لمزاجية الشركة المسؤولة التي جعلت من منطقة الكولا محطة لتحديد كلفة الرحلة.
نظرياً، لا يمكن اعتبار الـ250 ليرة، التي تفصل ما قبل الكولا عمّا بعدها، فارقاً مهماً. لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى أغلب مستخدمي الباص رقم 12، وخصوصاً إذا أخذت بعين الاعتبار كيفية وقوف الركاب داخله، متلاصقين، ومعرّضين للاهتزاز مع اهتزازه المتواصل. رغم ذلك لا يلجأ هؤلاء إلى اعتماد وسيلة نقل أخرى، ستكون تكلفتها المادية أعلى بالتأكيد.
تسهل إذاً معرفة الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الركاب الذين يندر أن يوجد بينهم من يرتدي ربطة عنق أنيقة، أو يضع في معصمه ساعة ثمينة. يحتلّ التعب جبهات معظمهم، أما قبضاتهم فتمسك الورقة البيضاء، التي يناولهم إياها السائق فور صعودهم كي يتحقق منها أحد المفتشين. وبالمناسبة، الركّاب لا يحبّون هذا المفتش، حتى وإن حاول ممازحتهم كأنه يحاول أن يشرح لهم «أن هذا عمله وعليه القيام به وحسب».
ينطلق الباص في السادسة والنصف صباحاً من محطته الأولى في عين السكة نحو أزقّة بيروت المتعرّجة. يعرف السائق الركاب تلقائياً كما يحفظ بعضاً منهم، رغم أن عدد الباصات التي تحمل الرقم 12 يبدو وفيراً بالمقارنة مع الأرقام الأخرى، ما يدل على عبوره مسافات أطول توصل إلى مناطق حيوية بالتحديد. يزدحم الناس في رحابه تدريجاً، ويقع هو نفسه في زحمة متوقعة عند تقاطع المشرفية، ثم يتابع مسيره خارجاً من تخوم الضواحي الجنوبية، باتجاه ما يعرف بـ«بيروت الإدارية» وعندما يصبح داخل الطريق الجديدة يسود صمت غريب في داخله، لأن التنوّع السياسي في وجهات الركاب يكتمل افتراضياً في هذه النقطة. بيد أن الأمر ليس «خطيراً» كما قد يتصوّر البعض، فيتشارك الركاب الأحاديث الجانبية، ويشكون الأمور ذاتها تقريباً.
يتابع الباص طريقه عبر المصيطبة ليدخل إلى شارع مار الياس ومنها إلى الحمرا، أي النقطة النهائية قبل عودته سالكاً الطرق ذاتها. وفي هذا الإطار تقول ميساء (27 عاماً) إن هذا الباص هو أكثر الأماكن أمناً للوصول إلى الحمرا والضاحية «لأن عدد ركابه كبير ولأن الجميع بحاجة إليه»، وتقول ممازحة إن أحداثاً كـ«بوسطة عين الرمانة» صارت من التاريخ، و«بإذن الله لن تتكرّر». إلا أن سيدة مسنّة تشاركها المقعد رفضت المقولة رفضاً قاطعاً، وذكّرت بمجزرة عين علق الأخيرة، وبالحرب الأهلية السابقة، وبارتفاع أسعار سيارات الأجرة، ولعنت الأحزاب التي شاركت في تقسيم المناطق جميعاً، قبل أن تردف بالقول: «مضطرة»، ثم تنفست بقوة، وراحت تنظر إلى الخارج بحزن.
يفضّل قاسم (25 عاماً) أن يحجز مقعداً إلى جانب الشباك دائماً، لكنه لا يلقي بنظراته إلى الخارج كالسيدة المسنّة. «الطريق إلى الأونيسكو طويلة» يقول ضاحكاً وهو يحمل كتاباً ضخماً، مؤكداً أنه قرأ أغلب الكتب في السنتين الأخيرتين من على تلك المقاعد بجانب الشبّاك، وبمعادلة حسابية معقّدة يحاول إقناعنا بأن الوقت الذي يمضيه في الباص، يتعدى الشهر أو الشهرين من كل سنة، ويتابع مبتسماً: «الباص أفضل الأماكن للقراءة».
«لا جدوى من الابتسام في عيون المسنّين، يكفيهم أن تترك مكاناً لهم» يشرح عماد من خلال خبرته: «في أوقات معينة من النهار، تصبح حركة الركاب كثيفة جداً، ما يضطر الشبّان و«أصحاب الذوق» إلى التخلي عن أماكنهم لكبار السن أو السيدات». ويبدي استياءه من عدم وجود محطات خاصة للتوقف أثناء الطريق «كما نشاهد في الأفلام السينمائية»، ما يسبب توقفاً متكرراً ومزعجاً، نتيجة أبواق السيارت ومطالبة الركاب للسائق لركن الباص جانباً حتى يتسنى لهم النزول، مشيراً إلى أن الشريط في أعلى الباص (الذي يستعمل لتنبيه السائق بالتوقف) هو ديكور، وربما هو معطّل منذ البداية، ويضحك.
الأطفال يضحكون ويضجّون بالأسئلة هم أيضاً. يشكون إلى أمهاتهم صوت المحرّك القوي، وتلفتهم الأشياء الغريبة، التي قلما يحدّقون بها على الطرقات، كنظّارة سميكة يضعها عجوز نائم، أو سماعة تُصدر موسيقى إلى الخارج، في أذني فتاة جامعية تحضن كتبها بدفء. لكن أكثر من يلفت الأطفال ويثيرهم هو الخارج، فيستمتعون بالارتجاج الذي يصيب الباص أثناء عبور المطبات، كأنهم في مدينة ملاهٍ، يتوقون إلى زيارتها بشدة.
ولماذا لا يحبّون زيارته ما دام «هذا الباص هو لخدمتكم حافظوا عليه» كما نقرأ على الواجهة الزجاجية للباص. لكن الزمن والغبار اللذين تشاركا في محو بعض حروف العبارة لا تتيح للركاب قراءتها، وبالتالي فهم لا يترددون في مخالفة «النصيحة». تجد الشتائم السياسية محفورة على المقاعد، فيما تمتلئ الأرضية بالنفايات رغم محاولات التنظيف التي تقوم بها الشركة يومياً، على ذمة أحد السائقين.
لعل الناس هم المسؤولون الأساسيون عنه، بما أنهم المستفيد الحقيقي الوحيد من وجوده، لكن الفكرة الشائعة لبنانياً أن المسؤولين السياسيين تخلوا عن واجباتهم، فلم يكن صعباً أن يتخلى الناس بدورهم عن «أناقة الباص». أمام كلّ هذا الفقر الذي يعايشه الباص يومياً، لم يعد هو وحده من يحمل أرقاماً متشابهة، بل صارت وجوه ركابه كاللافتات التي تتصدّر مقدمته، مجرّد أرقام يوحّدها الانتظار، ريثما تنتهي الزحمة ويتوقف الباص.