تضحك الفتاة. تضحك كثيراً، لتعود وتجلس بطريقة «راكزة» وتكمل الحديث. فبعدما شارفت على معاداة كل مجتمعها، عادت لتقرّر أن الضحك والتطنيش هما أفضل الحلول للعيش بسلام.بدأت حكاية الفتاة حين كانت في الخامسة عشرة من عمرها، وصُدمت بأن في العالم، والعالم القريب جداً، مجموعة صغيرة من الشباب لا يحبّون بشير الجميّل، ولا تستهويهم شعارات «نحن قدّيسو هذا الشرق وشياطينه»، أو «أمن المجتمع المسيحي أولاً». بل والأنكى أنّهم كانوا فرحين بتحرير الجنوب من الإسرائيليين. استمعت إليهم من دون تعليق وبغضب مكبوت. استمعت إلى أحدهم يتحدّث عن أرض له في فلسطين وعن حلم بعودة قريبة. تمنّت له الموت قبل أن تتسنى له رؤية تلك الأرض. نعم فليمت هو وكلّ حاملي هذه الجنسية، ولتحترق فلسطين بالنيران الإسرائيلية، أقله ستحترق بنار شعب متحضّر!
تذكر الفتاة تلك المرحلة وتضحك مجدداً. تبحث عن تلك النقطة التي قلبت حياتها، وجعلتها في حالة عداء شبه دائم مع مجتمعها. تعجز عن تذكّرها، فالتحوّل كان تلقائياً، لم تعد تطيق التعليقات العنصرية بحق باقي الطوائف، باتت تصرّ على الدفاع عن كل «الأعداء السابقين» حتى الصاعقة والمرابطون، وتستعمل عبارة «العدو الصهيوني». نعم، هكذا وفجأة، وجدت نفسها تشتري كتب مهدي عامل، التي لم تقرأها حتى اليوم، وتقرأ بنهم روايات غسان كنفاني، وكتب جان بول سارتر، وإن كان قسم منها لا يزال مبهماً بالنسبة إليها.
لم يعجب هذا التحوّل أحداً. الأمّ خافت من انحراف ابنتها نحو أفكار «هيديك المنطقة». الأب ينظر إليها ويهزّ رأسه آسفاً لما آلت إليه أحوالها الفكرية والثقافية. أما الأخ، فمرعوبٌ من تشويهها لسمعة العائلة.
تضحك الفتاة. تضحك كثيراً، لتعود وتجلس بطريقة «راكزة» وتكمل الحديث. حديث غالباً ما يستفزّها، لكنها تسكت خوفاً من ردة فعلٍ قد تكلفها عداءً دائماً وأبدياً مع عشيرتها الصغيرة، فلا تجد مهرباً إلا بالضحك، «وعلى صوت عالي كمان».

ليال...