تظهر الطفلة الجديدة ميلاً كبيراً إلى الاهتمام بمظهرها، وإلى إثبات «أنوثتها»، تردد عبارات «إغواء» لأترابها الصبية بشكل يفاجئ الكبار. لماذا تبالغ صغيراتنا في التبرج؟ وماذا عن الطفلة حين تكسر الأم قالبها لتتماثل مع القالب المفروض اجتماعياً
بيسان طي
تقول الحكايات إن الفتاة الصغيرة تنظر إلى المرآة لتستشيرها في أمور الجمال والزينة، وتستمد منها الرضى عن نفسها، وحين تغيب المرآة تصير بطلة الحكاية الجميلة حزينة، شعرها أشعث، مظهرها غير مرتب، ووجهها ملوّث بالأوساخ وغبار البيت الذي تنهمك وحدها في تنظيفه. هذه الصغيرة المهملة، لكن الجميلة، هي في كل القصص فتاة فقدت أمها وتعيش في ظل زوجة أب تكرهها. رافقت هذه الحكايات أيام طفولتنا، وحين تخيلنا المرآة التي تحملها الفتاة الصغيرة رسمناها باللون الزهري، اقتصر تعمقنا بها عند هذا الحد ولم نفكر كثيراً في خلفياتها.
تنتهي بعض الحكايات عند المشهد التالي: تتأبط الجميلة ذراع الأمير، يمشيان على منحنى ويفرش لهما الضوءَ القمرُ، تلقي الفتاة نظرة نحو السماء، فترى القمر مكتملاً وقد ارتسمت على وجهه صورة أمها الراحلة، تبتسم لها راضية على جمالها ومصيرها.
قصة المرآة شغلت باحثين في مجالات العلوم الإنسانية، وكثيرة هي الكتابات التي تحيلنا إلى عيون الأمهات، المرآة هي مرادف ـــ بديل للأم، كما تكون الأم تكون الطفلة، وفي الجيل الجديد تميل الصغيرات إلى إظهار الجانب الأنثوي بشكل كبير.
لين تبلغ من العمر سنتين فقط، ترفض الصغيرة أن ترتدي ملابس ذات ألوان غير متناسقة، تُكثر من الحلي، تستل أحمر الشفاه وتبدي فرحاً كبيراً وهي تضعه على شفتيها ووجهها، المكان المفضل بالنسبة إليها هو متجر الألبسة والحلي، تقول لوالدتها Mum it s wow.
لين تقدم وجهاً واحداً مما نشهده عند فتيات هذا الجيل، صديقاتها بكامل أناقتهن عند الخروج من المنزل، يبدين اهتماماً أكبر بالملابس والحلي والماكياج، وتمثل نجمات الموجة الجديدة أيقوناتهن. والغريب أن هؤلاء صغيرات جداً، بعضهن لا يجدن الكلام بشكل متقن.
الدكتورة بهاء يحيى (أستاذة علم النفس في الجامعة اللبنانية) تبدأ حديثها عن الطفلة في الجيل الجديد بالعودة إلى التركيبة الأولى، أي الأسرة: الأب، الأم، الطفلة، وتذكّر بالفترة الأوديبية التي تمر بها الفتاة بين 3 و5 سنوات، حين تشعر بتعلق عاطفي بالأب وتماه مع الأم، تماه تعتقده وسيلتها لجذب الأب إليها. وحين تتقبل الصغيرة «الانفصال» العاطفي عن الأب تستمر في التماهي مع الأم حتى الفترة التي تسبق المراهقة. يبدو أن للنزعة الأوديبية أدوات جديدة تستخدمها الصغيرات هذه الأيام، ندخل غرفهن فنرى أحياناً صورة عارضة تغني إلى جانب صور بياض الثلج أو سندريلا، وكثيرة هي الممارسات التي تظهر ميلاً كبيراً لدى الطفلة الجديدة إلى تقليد نانسي عجرم مثلاً أو هيفا وهبي، لكن الدكتورة يحيى تدعو إلى تأمل الأمهات لفهم سلوك الفتيات: كيف تتصرف الأم؟ ما الذي ترتديه؟ كيف تمشي؟ لماذا تلجأ إلى عمليات التجميل حتى صارت معظم النساء على صورة واحدة «لهن أنوف متشابهة، وشفاه منفوخة وخدود مرفوعة والعيون نفسها، صرن جميعهن صورة عن نموذج غير صحي، وبالتالي لم نعد نرى الصغيرات طفلات بل صوراً مصغرة عن أمهاتهن».
تنذر يحيى مما يخفيه هذا التعلق الكبير بالمظهر لدى الأم والطفلة، تذكّر بأن «المظهر يحكم الداخل، وتضيع الـ«أنا»، ما يخلق تشوشاً في السلوك والتصرفات وكيفية نقل القيم، كأن الأم تقول لابنتها «كوني مثلي، انظري كيف أتمثل بالآخرين»، وتتخوف يحيى من الانعكاسات السيئة للميل لتقليد النموذج العالمي الأوحد للجمال، تقول إنه «يقود إلى اضطرابات نفسية، وإلى أزمة على صعيدين: أزمة التمثّل بالنموذج، وأزمة عدم نجاح المساعي».
الباحثة المغربية فاطمة المرنيسي كتبت عن الرجل العربي العصري الذي يحمل الكمبيوتر ويتحدث لغات أجنبية، ويدّعي أنه متحرر، فيما هو لا يزال أسير عقلية «الحريم»، بل إن المجتمع العربي كله أسير هذه العقلية رغم ميل إلى تقليد الغرب في المظهر لدى معظم فئاته، هنا تكمن الخطورة الكبرى في رأي يحيى، فتلفت إلى أن «اللاوعي الجماعي يُتوارث عبر الأجيال، وموروثنا الثقافي ما زال تقليدياً، وعندما تكبر الطفلة ستصطدم بهذا الموروث، هل تجاري «المجريات» الحديثة، أم تعيش انسلاخاً عن بيئتها»، وهذا الانسلاخ لا يكون خياراً فكرياً تحررياً بل «يقتصر على الأمور السطحية، أي القشور».
على أي حال، يمكن ألا تكون الصورة قاتمة دائماً، تدعو يحيى إلى الموازنة بين الميل الكبير لإظهار الجانب الأنثوي واهتمامات أخرى يجب تنميتها لدى الطفلة الصغيرة، كما تدعو إلى القبول بصورتنا من جهة، وإلى تعزيز الهوية الجنسية لدى كل طفل، وليبدأ ذلك منذ سنواته الأولى. حين سنصنع حكايات «معاصرة» عن جميلاتنا الصغيرات، هل سنحشر فيها مواصفات رسمها أطباء التجميل أو جراحوه، وماذا عن المرآة أو عيون الأمهات؟ وهل سيتحوّل إعجابنا بأنوثة الصغيرات الطاغية إلى خوف من مراهقات يصنعن نماذج جديدة من القيم التي تجعلهن يعانين من «أزمة هوية»، إضافة إلى معاناتهن من أزمات المراهقة؟
لين التي تعشق متاجر الألبسة تزور مع والديها معارض للفن مخصصة للصغار، وتلعب بكتب تبث موسيقى... على أي حال، ثمة خيارات أخرى من الممكن أن تلجأ إليها الأمهات للابتعاد عن الصورة النمطية التي نقع جميعاً تحت سطوتها دون أن ندرك بشكل جدي كل مخاطرها.


انفضت الصغيرات عن بعض الدمى والشخصيات الكرتونية الجميلة، باربي لم تعد مثال الجمال بالنسبة إلى الصغيرات، وتراجعت أسهم بياض الثلج وسندريلا صاحبتي الجمال «البريء» والطبع الخجول، الشركات المصنّعة للدمى تتجه إلى تصنيع دمى تمثّل صورة الفتاة المغرية التي تضع الكثير من الماكياج على وجهها