نعوم تشومسكي لم يتعب من السير بعكس تيّار «النظام» الأميركي المهيمن على العقول والإعلام. فالحصار الذي يمارسه عليه الاستابليشمنت لم يجدِ نفعاً في منع وصول صوت ذلك المفكّر اليهودي الأصل، اليساري الانتماء إلى العالم أجمع. في هذه المقابلة التي تنشرها «الأخبار» بالتنسيق مع فصليّة «ميديا» الفرنسيّة، يشرّح مفكّرنا «إرهاب» الدعاية الأميركيّة المتمثّلة بسياسات ستالين وألمانيا النازيّة
نعّوم تشومسكي

■ يقولون عنكَ إنّك غائبٌ عن الإعلام التقليدي، فيما صحيفة «نيويورك تايمز» رأت أنّك «أحد أكبر المثقّفين على قيد الحياة».
ــ هذا التعليق، من نيويورك تايمز، مأخوذ من نصّ نقدي أدبي. لكنه يجب التنبّه إلى التعابير البرّاقة التي تصدم. فالمقال يتابع ليقول «إذاً، كيف له أن يكتب أموراً مخيفة عن السياسة الخارجية الأميركية؟». من ثم تتوالى الانتقادات. وأنا لا أنتظر أن تمدحني وسائل الإعلام الأميركية. إن كنت فعلاً أبحث عن ذلك، وبقليل من الجهد، فيمكنني أن أكون أكثر حضوراً، وهناك أيضاً مسألة الوقت، فأنا مشغول دائماً. وشبكة نيويورك تايمز وزّعت العشرات من مقالاتي المتاحة للجميع وهي ليست سرية، وقد نشرت في جميع أنحاء العالم. والمقال الوحيد الذي نُشر في أميركا كان بناءً على طلب هذه الصحيفة.

■ ماذا كان موضوعه؟
ــ لقد فوجئت بشدة عندما طلبت منّي النيويورك تايمز أن أكتب عن جدار الفصل في الأراضي المحتلة. وقد قلت في هذا المقال إن الادّعاء بأن الجدار سيؤمن الأمن والأمان لإسرائيل هو من دواعي السخرية. إن كانت إسرائيل تريد فعلاً حماية نفسها فعليها أن تبني سوراً ارتفاعه ثلاثة كيلومترات داخل الخط الأخضر وتحميه بأسلحة نووية بحيث يصبح غير قابل للاختراق... ولكن هذا سيحرمها من التمكن من الوصول إلى الطرف الآخر من الضفة الغربية. وما تريده فعلاً من هذه الأراضي هو المصادر الطبيعية، والأراضي الخصبة، وتفكيك المجتمعات الفلسطينية...
إن هذا الجدار الذي بُني ليحمي المستوطنين هو غير شرعي بالكامل، وقد اعترفت المحاكم بهذا القول. إن السلطات الإسرائيلية تعرف منذ 1967 أن عملية الاستيطان هي انتهاك لمواثيق جنيف. ربما لهذا السبب طلبت مني الصحيفة كتابة هذا المقال. فلا يوجد شخص آخر يقول هذا الكلام في أميركا. ولا توجد وسيلة إعلام تتطرق إلى ذلك على الرغم من أنّه بديهي. ولكن، لماذا يجب أن نتوقع أن تتمكّن آراء مختلفة ومخالفة للسائد من أن تُنشر في وسائل الإعلام؟

■ هل تحاول وسائل الإعلام أن تمارس الرقابة عليك عندما تعطيك الكلام من خلال فرض شروط خاصة؟
- تتمّ دعوتي أحياناً، ولكنّ كل شيء يكون قد أُعدّ مسبقاً. دعني أورد لك مثالاً على ذلك: أثناء انهيار جدار برلين، اتصل بي معدّو برنامج (خط الليل) Nightline من قناة ABC. وأنا أعرف هذا البرنامج وطريقة إعداده. يجب على المدعو أن يلبي عدداً من الشروط وخصوصاً ما يسمّونه السرعة. فمداخلتك لا يمكن أن تتجاوز جملتين بين الفقرات الإعلانية. وبما أنني كنت أعرف تماماً ماذا ينتظرني، فقد رفضت المشاركة. أما صديقي أليكس كوكبورن، فلقد اتصل بي بعد دقائق ليقول لي إنّ البرنامج المذكور قد دعاه، فنصحته بعدم الذهاب، لكنه لم يسمعني وذهب. ولقد شاهدت الحلقة لإشباع فضولي، وقد تحقّق حدسي. فالموضوع إذاً يتعلق بانهيار الجدار، وهو يظهر الجموع الفرِحة والمبتهجة، ومن ثم، يتوجه المذيع داخل الاستديو إلى صديقي أليكس ويسأله: بماذا تفكر أيها السيد كوكبورن، أنت الذي يبخّر لستالين؟
فيبدأ أليكس بالرد من خلال جملة أو اثنتين ليقاطعه المذيع قائلاً: شكراً سيدي. كما قلت لكم، كل هذا معدٌّ مسبقاً، إنّه إخراج محكم.

■ منتقدوك يتهمونك بأنك لا تعرف كفاية كيف تعمل وسائل الإعلام وما هي معوقاتها وشروط عملها، فعلى سبيل المثال، لماذا تعارض أسلوب السرعة في العمل الإعلامي؟
ــ أنا أرى أن هذا أسلوب للبروباغندا، فإذا كانت لديّ ثلاث دقائق لأشرح لماذا ليبيا هي دولة إرهابية، أستطيع أن أفعل ذلك. بالمقابل، إن أعطوني المدة نفسها لأشرح لماذا الولايات المتحدة الأميركية هي دولة إرهابية، فهذا مستحيل. فقبل كل شيء، لم يسبق لأحد أن استمع إلى هذا الطرح من قبل. يجب إذاً تحليل الوضع وإعطاء البراهين. عدا ذلك، سيبدو أن الطرح لا معنى له البتة. إننا عندما ننشئ ونتعلم وما نزال في مجتمع أفكاره موجّهة إلى حدّ كبير، يجب علينا أن نتمكن من الموضوع الذي نعالجه، وأن نتحصّل على معارف عميقة لفهم الأفكار التي تبتعد عن الفكر الأحادي.
إن الصحافيّين واعون لهذا الأمر بشكل كبير، ولقد أدمجوه في طريقة عملهم. فعلى سبيل المثال، يقوم شارلي روز في برنامجه على قناة PBS باستقبال جون بورنز، عميد المراسلين الأميركيين الذين غطّوا أهم الأحداث في العالم. وهو يقول إنّ المراسلين يجب أن يدافعوا عن ألوان الفريق المحلي. بالطبع، فهذا ما أراد قوله، وإنما هو قال إنّ الولايات المتحدة هي مصدر الاستقرار الرئيسي في العالم والداعم الأول لحقوق الإنسان منذ الحرب العالمية الثانية. وهو يصرّح بأمور عجيبة أخرى من اللون ذاته. ويأسف خصوصاً لأنّ الوضع في العراق يخفّف من قدرة أميركا على نشر السلام والعدالة وحقوق الإنسان، ومواجهة الأنظمة الشمولية في جميع أنحاء العالم.
إنّ تصريحات كهذه هي أبعد ما تكون عن الحقيقة والواقع. كان بإمكان صحافي من جريدة البرافدا إبّان الحقبة السوفياتية أن يقول الشيء نفسه في ما يتعلّق بستالين.
كان بإمكانه القول بأنه كان مدافعاً عن الديموقراطية وعن حرية الشعوب في أوروبا الشرقية ضد الفاشية، إنّ اليوم الذي لن يكون بمستطاعه الاستمرار بالقيام بهذا الشيء سيكون يوماً تعيساً. لكم كنا ضحكنا لمثل تلك التصريحات؟ ولكننا الآن في أميركا وفي العالم الغربي عموماً لا يمكننا أن نضحك لأن عقولنا مسيطر عليها بعمق.

وسائل الإعلام والهيمنة الأميركيّة

■ لقد سبق وذكرت بأن البروباغندا بالنسبة إلى الديموقراطية هي كاستخدام السلاح بالنسبة إلى دولة شمولية. ما هو دور وسائل الإعلام إذاً في مثل هذه المنظومة، وكيف تعمل هذه المنظومة وما هي الفوائد المرتجاة منها؟
- إن وسائل الإعلام هي مصدر معلومات هام جداً وأنا أقرأها كل يوم، ونحن نتعلم الكثير من خلالها. ولكنها تؤمن، كما سبق وذكرت، بالدفاع عن ألوان الفريق المحلي. فلننظر إلى صحف هذا الصباح مثلاً، وإلى العنوان الرئيسي لوول ستريت جورنال: إيران لم تتوقف عن بيع السلاح إلى العراق! هذه هي المشكلة إذاً في العراق: أن إيران ترسل الأسلحة. يمكن أن يكون هذا القول صحيحاً أو غير صحيح، ولكن، فلنتوقف للحظة لنرى ما يريد هذا العنوان الإشارة إليه. في سنة 1985، كان للعنوان الرئيسي في البرافدا أن يكون: «أميركا مستمرة في إرسال الأسلحة إلى الإرهابيين في أفغانستان الذين يقاومون جهود الاتحاد السوفياتي لإحلال السلام وتأمين الاستقرار في هذا البلد». في هذا الطرح أيضاً، هناك شيء من الحقيقة، ولكن هناك شيء ما ينقص.
يمكن لنا أن نتبيّن هذا النقص في الحالة السوفياتية، ولكن لا يمكننا التوصل إلى معرفته عندما يتعلق الأمر بنا. وعندما يتم سؤال كوندوليزا رايس على التلفزيون وعلى الإذاعة عن الطريقة التي يمكن اعتمادها للانتهاء من هذه الحرب، تُجيب: هذا أمر بسيط جداً. يجب وضع حدّ لتدفق المقاتلين الأجانب والأسلحة من الدول المجاورة إلى العراق.
لا أحد ينزعج من هذا القول. هل هناك أسلحة ومقاتلون أجانب في العراق؟ نعم، بالتأكيد. فهناك أكثر من 150 ألف جندي أميركي و100 ألف مرتزق مسلَّح، ولكنهم ليسوا بأجانب على ما يبدو، لأننا نعتقد بأن العالم هو ملك لنا. ولننظر الآن إلى فاينانشل تايمز، وهي الصحيفة التي أجدها أكثر جدية من أترابها. العنوان الرئيسي اليوم مكرّس لكوريا الشمالية، وحول أنها تقوم ببناء منشآت نووية في سوريا. ولكن إن نظرنا عن قرب، نجد أن هذا البناء المزعوم كان قد بدأ العمل به في سنة 2002 أو 2003. لا نعرف إذاً من أين أتت الصور التي ترافق المقال. فإما أّنها أخذت منذ عدة سنوات أو أنها مخترعة بالكامل. لقد دمّرت حكومة بوش الاتفاق المعقود مع بيونغ يانغ في 2002، والذي كان يمنعها من تطوير أسلحة نووية. وتمّ إثر ذلك ضمّها إلى لائحة بلدان «محور الشر». ولقد نشرت الحكومة الأميركية حينذاك تقارير عن فظائع ترتكبها الحكومة الكورية الشمالية. وعندما قرر المجتمع الدولي إرسال محققين إلى هذا البلد، سحبت الإدارة الأميركية من الملف، وبشكل سري، تقارير اعتبرتها غير كافية.
ولم تعرض الصحف في ذاك الوقت إلا جزءاً ممّا حصل. يمكن أن تكون كوريا الشمالية هي أسوأ نظام في العالم، ولكنها تنتهج سياسة عمليّة وواقعية. فعندما تشتد عدائية السياسة الأميركية تجاهها، فهي تنحو في المنحى نفسه. وعندما تميل أميركا إلى التفاوض، فإن كوريا الشمالية تدخل اللعبة. وهذا ما حصل في 2002 و2003. وهذا يُشير إذاً إلى أن جزءاً هاماً من القصّة لم يتم التطرق إليه ولا عرضه في وسائل الإعلام. لماذا، وعلى سبيل المثال، نجد أن كوريا الشمالية موجودة في الشرق الأوسط؟ لقد كانت إسرائيل مستعدة للاعتراف بها في سنة 1993، وذلك ما كان ليدفعها إلى تعديل مواقفها، وهذا ينعكس بالتالي إيجاباً على إسرائيل؟ لماذا لم يقوموا بذلك؟ لقد نهاهم كلينتون عن هذه الخطوة. هذا إذاً حدثٌ هام كان يمكن له أن يتصدّر أخبار وسائل الإعلام إن كانت تتمتع بالحرية الحقيقية. إذاً، نعم، يمكن أن نحصل على المعلومات من وسائل الإعلام ولكن هذه المعلومات تقدّم لنا بطريقة خاصة. إن الأشخاص الذين لديهم حدّ أدنى من الوعي ومن المعرفة بالتاريخ، والذين يقرأون الصحف، يستطيعون أن يفسّروا ما يُقال لهم وأن يعرفوا ماذا يجري حولهم بشكل حقيقي. أما أشخاص مثل جون بورنز، فإنّهم يصدّقون كل ما يُقال لهم، وهم عاجزون عن فهم الحقيقة.

■ إنّكم تنفون عن نفسكم نشر نظريّة المؤامرة وتتحدثون بالمقابل عن سوق موجّهة حيث الأخبار هي مُنتج تُحاول وسائل الإعلام تسويقه. فالهدف الأساسي لوسائل الإعلام ليس المتلقي ولكن سوق الإعلانات؟
- إن التاريخ يُظهر ذلك ويؤكّده. إذا حلّلنا عن قرب الصحافة الغربية أو حتى الأميركية، نلاحظ أن مجموعات اقتصادية كبرى تبيع منتجاتها إلى السوق. أتحدث هنا عن وسائل الإعلام النخبوية، التي تحدد ما يراد أن يتم إيصاله إلى المتلقي. والمتلقي هنا هم الناس المتعلمون، المتميّزون، والمقررون في السياسات والأساتذة في الجامعات. إنهم يشكلون أقليّة بين الناس ولكنهم مترابطون بشكل قويّ. وبالتالي، فهذه المجموعات الاقتصادية تبيع جمهوراً متلقياً متميزاً ومتعلماً إلى سوق يجمع مجموعات اقتصادية هامة أخرى. ماذا يمكن لنا أن ننتظر والحال كذلك من أن تحمل وسائل الإعلام من مضامين؟ يشرح جورج أورويل ذلك بشكل جيد جداً في مدخل كتابه «مزرعة الحيوانات» والتي تصف وحشاً شمولياً. وهو يتساءل لماذا في بريطانيا الحرّة، يتم حجب الأفكار المزعجة للبعض عن التداول، ومن دون استخدام القوة؟ وهو يعتقد بأن مردّ ذلك يعود أولاً إلى ملكية وسائل الإعلام لرجال أغنياء لديهم كل الأسباب والدوافع كي يرفضوا تعبير بعض الآراء عن ذاتها. والسبب الثاني متعلق بالتوجيه الفكري والعقائدي. فإنك إن تلقيت تربية جدية وحصّلت علومك في جامعة أوكسفورد أو كامبريدج، يستوعب منطقك العقلاني أن هناك أموراً من الأفضل عدم الخوض فيها أو حتى التفكير بها. فعلى سبيل المثال، لا يمكن لك أن تفكر بأن الولايات المتحدة وبريطانيا مسؤولتان عن أية حالة اعتداء. هذه الفرضية بحد ذاتها غير مقبولة. ولكنك تستطيع أن تطرح هذه الفكرة إن كان الأمر متعلقاً بروسيا أو بصدام حسين.
فنحن عندما نعتدي، لا يمكن أن يكون الأمر إلا عملية تحرير، ومن يقاومنا هو المعتدي الحقيقي. وفي ما يخصّ العراق، فإن قرأت الصحف، سيُخيّل إليك أن كلمة «الفاسق» هي جزء لا يتجزأ من اسم مقتدى الصدر. فالصحف تُشير دائماً إليه كمتمرّد أو كفرد متطرف من رجال الدين، وهو في الحقيقة، رجل يقاوم العدوان الأميركي، أي إنّه يقاوم اعتداءً خارجياً.

■ يتمّ اتهام وسائل الإعلام بأنها غير موضوعية وبأنها تميل إلى اليسار، فهل هذه طريقة أيضاً للسيطرة عليها ومراقبتها؟
- إن اليمين يتهم الصحافة باستمرار بأنها تتبنّى أفكار اليسار السياسي، وعلى العكس من أصدقائي، فأنا أتفق مع اليمين في هذا الأمر. إن وسائل الإعلام ذات التوجه الديموقراطي الاجتماعي هي حامية النظرية وهي الحارس المتنبّه الذي يحدد إلى أي مدى يمكن لنا أن نصل. فعلى سبيل المثال، وفي نهاية حرب فيتنام، كانت التعليقات الأكثر أهمية تأتي من إعلام اليسار المتطرف. أنطوني لويس من نيويورك تايمز كان يصف بداية الحرب في 1975 كالآتي: لقد قامت أميركا بجهود مليئة بالأخطاء لتحقيق الخير. لقد رأى أنه بما أن أميركا هي التي قامت بهذا، فمن المحتّم أنها كانت محاولة للقيام بما هو صحيح. ومن ثم يقولون لنا: عذراً، لم ينجح الأمر.
فمنذ 1979، بدأنا باكتشاف أن هذه المحاولات لجلب الديموقراطية إلى جنوب فيتنام تكلفنا غالياً. فيما هذه المحاولات كانت من نفس مستوى جهود ستالين في أوروبا الشرقية. لقد كانت الإدارة الأميركية تعرف أنها تحارب ضد حركة شعبية كبرى وأنها لن تتمكن من تنظيم انتخابات لأن نتيجتها ستكون الفشل الكامل. ولكن لم يكن لدينا الحق في أن نفكر بذلك. هذه المحاولات «لعمل الخير» تبيّن لاحقاً أنها غير مجدية وأنها مكلفة للغاية. هذا هو الانتقاد الذي قام به اليسار. وفي عام 1969، وصف 70 في المئة من الأميركيين الحرب بأنها غير أخلاقية أكثر من مجرد كونها خطأً.
لن تجد كلمة حول ذلك في الإعلام التقليدي. فمن غير الممكن انتقاد الذات بشكل عقلاني. وأنا أبحث منذ سنوات ولم أجد حتى الآن في الصحافة الأميركية عبارة: اعتداء أميركي. وخصوصاً في ما يتعلق بالعراق، لم أتمكن من الحصول على نقد مبدأ الغزو نفسه. الشيء الوحيد هو ما يقوله المرشح الديموقراطي للرئاسة باراك أوباما حول أن الحرب في العراق هي «خطأ استراتيجي».
في المقابل، لم نسمع أنهم يتحدثون عن خطأ استراتيجي عندما كان الأمر يتعلق بالغزو السوفياتي لأفغانستان. وكذلك، فقد قالت هيلاري كلينتون إننا مُقحمون في حرب أهلية لن نستطيع الخروج منها رابحين. لا يمكن اعتبار هذا الكلام انتقاداً فعلياً. السؤال الحقيقي هو: لماذا هناك حرب أهلية؟ لماذا لا نطرح السؤال على العراقيين؟ إنهم بالنهاية يعرفون السبب: العنف الطائفي تسبب به الاجتياح الأميركي. يمكن لك إذاً أن تفكر بهذا الأمر، ولكن لا يمكن لك أن تعبّر عنه في الإعلام التقليدي.

■ لكن هناك العديد من وسائل الإعلام التي تنتقد الوضع القائم، وهنا أذكر ريبورتاج واشنطن بوست حول السجون السرية لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في أوروبا، والمقالات حول تجسس وكالة الأمن القومي على الأميركيين، حتى إن بعض أعضاء الإدارة الأميركية اتّهموا الصحافيين بأن أيديهم ملطخة بالدماء...
- نعم، أحياناً تتحدّى وسائل الإعلام السلطة القائمة، ولكن مع التقيّد بحدود معيّنة. فهم تحدثوا جزئياً عن السجون السريّة والفظائع المرتبطة بممارسة اختطاف الأشخاص الذين يتم نقلهم سراً إلى البلدان التي يسمح فيها بالتعذيب للحصول على اعترافات. لقد عالجت وسائل الإعلام أيضاً قضية سجن أبو غريب في العراق وفظائع معتقل غوانتانامو في كوبا. إن بعض المراسلين يقومون بعملٍ جيدٍ جداً، ولكن مع ذلك فهم لا يتعرّضون لما هو أهم. مثلاً، في معتقل غوانتانامو لا توجد ضرورة لكي يعرف الإعلام بأن التعذيب يمارس، فالأمر معروف حتى قبل أن تتحدث الصحافة عنه. لأنه مرتبط بمجرد وجود هذا المكان، حيث يُنقل المساجين خارج أي إطار قانوني أميركي، عوضاً عن أن يكونوا في سجنٍ في ولاية نيويورك مثلاً.
إن السبب الوحيد الذي يبرر ذلك هو أن هذا المعتقل هو غرفة تعذيب. الشيء ذاته بالنسبة إلى عملية اختطاف الأشخاص للتحقيق معهم في دول تمارس التعذيب: لا نستطيع تعذيبهم كفاية في أميركا، إذاً، نرسلهم إلى حيث يمكن أن يعذبوا بشكلٍ «جميل». هل كنّا بحاجة إلى الصحافة لنعرف ذلك؟ ومع ذلك، فإنّه شيء جيّد أن يتم كشف ذلك عبر وسائل الإعلام، لأنّه يفتح عيون الناس ويساعدهم على البدء في التفكير.

■ لقد قلت «درجة انصياع وسائل الإعلام للسلطات في الغرب تشبه تلك الموجودة في ظل النظم الشمولية»، ألا توجد مبالغة في هذا الكلام؟ هل يمكن لنا حقاً أن نقارن نيويورك تايمز بجريدة غرانما الكوبية أو صحف بورما؟
- إنني أتبنّى نفس موقف جورج أورويل في مقدمته غير المنشورة لكتابه «مزرعة الحيوانات»، عندما يقارن النظام الشمولي الذي يتهكم عليه ببريطانيا الحرّة. فهو لا يدّعي بأن وسائل الإعلام في هذه الأنظمة المختلفة متشابهة، وهي حتماً مختلفة. ولكنه يقول بأن النتيجة التي يتم التوصّل إليها هي نفسها. وبالمقابل، فإن الآليات مختلفة تماماً.
في بريطانيا الحرّة، يتم هذا الأمر طوعاً ولا يوجد إكراه ولا استخدام للقوة إلا في حالات نادرة للغاية، في بريطانيا أكثر من أميركا على أية حال. ويجب على بريطانيا أن تخجل من السيطرة التي تمارسها الحكومة على وسائل الإعلام. إن هذه السيطرة تقوم من خلال تطبيق قوانين وعقوبات متشددة حول ما يتعلق بما يسمى الإساءة إلى الأشخاص، وهو أسلوب يستخدمه الأغنياء وذوو السطوة لإسكات الأشخاص المزعجين. وعلى العكس من ذلك، فحرية الصحافة في أميركا محترمة فعلاً. وهذا عائد في جزءٍ منه إلى الإرادة الذاتية للعاملين والممولين لهذا الجسم الإعلامي، وفي جزءٍ آخر إلى التوجيه الفكري والعقائدي الذي يُدير هذه الوسائل الإعلامية. فنستطيع القول بالتالي إنّ دراسة النظم المفتوحة هي عملية أكثر أهمية ودلالاتها أكبر. ففي نظام قمعي كما في الاتحاد السوفياتي السابق، كان الصحافيون يبررون مواقفهم بالحديث عن الخوف، فيما الصحافي أو المثقف أو أستاذ الجامعة في أميركا لا يستطيع أن يختبئ وراء مقولة الخوف. وبالتالي، فإن موقفهم هو مجرّد جبن. إضافة إلى أنّه قد تمّ إقناعهم بأن هناك أموراً لا يمكن ذكرها ولا التفكير بها. حتى إنني يمكن أن أقول إنه من غير المؤكّد بأن عملية الوصول إلى المعلومة هي أفضل حالاً هنا. لقد نشرت واشنطن بوست منذ ثلاث سنوات نتائج دراسة أعدّتها الحكومة الأميركية ومعهد للأبحاث حول كيفية الحصول على الأخبار لدى المواطنين السوفيات قبل انهيار منظومتهم. لقد كانت النتائج هامة للغاية. فلقد تم التمييز في الدراسة بين المتعلمين وبين الطبقة العاملة. لا أذكر الرقم بالتحديد، ولكن ما يقارب 95 في المئة من السكان كانوا يلجأون إلى مصادر أجنبية كهيئة الإذاعة البريطانية لأنهم كانوا عادة لا يثقون بصحافتهم. وبين السكان عموماً، كانت نسبة 70 في المئة، 50 منها من المتعلمين و15 من المواطنين الأقل تعليماً، تلجأ إلى مصادر أخرى غير مسموح بتداولها كالنشرات السريّة أو المطبوعات غير المرخّصة.
فلننظر الآن إلى الولايات المتحدة: عشر السكان على الأكثر لا يكتفون فقط بالعناوين الكبيرة للتلفزة وللصحافة. وبالتالي، فالأميركيون هم أقلّ تعليماً بشكل كبير من نظرائهم الروس. فالمطبوعات المعارضة هناك هي غير شرعية. أما هنا، فلا! ولكن هل يمكن لمطبوعة معارضة هنا أن تصل إلى 50 في المئة من السكان؟ حتماً لا، فهذا أمر غير ممكن تصوره. إذاً، وبالمقارنة، فالروس يتحصّلون على تنّوع أكبر من المعلومات ومصادر الأخبار بالمقارنة مع الأميركيين. وبما أن الاتحاد السوفياتي كان دولةً شمولية، فالبروباغاندا هي ظاهرة شبه طبيعية لدرجة أنها لا تثير الانتباه. أما الوسيلة والمنهجية لدينا فهي أكثر إتقاناً، ما يؤدي إلى تقبل المواطنين لها بشكل أسلس.

■ هل يحمل تطور الإنترنت في خباياه نهاية «صناعة الإجماع» مع نشوء الصحافة المواطنية وإمكان تطوير أفكار لا يمكن لها، حسب ظنك، أن تعبر عن طريق وسائل الإعلام التقليدية؟
- إنّ الإنترنت وسيلة رائعة، وأنا أستخدمه كلّ الوقت، فهو مصدر معلومات هائل. ولكن، تصور أنك عالم أحياء وأن لديك القدرة على الوصول إلى جميع المقالات والأبحاث المتعلقة باختصاصك. إن أمضيت وقتك في قراءتها، فستصبح أسوأ عالم أحياء. يجب عليك أن تعرف عما تبحث وأن تكون متمكناً من الموضوع العام لكي تجد نفسك في هذا الكمّ الهائل من المعلومات. عندما يكون الناس موجّهين فكرياً بشكل عميق فهم لا يعرفون عما يبحثون. فهم يُقصفون بالأخبار التي لا تفيد في شيء. وبالتالي، فإن الإنترنت مفيد جداً عندما تعرف ماذا تفعل. يجب التوصل إلى التخلص من منظومة البروباغاندا.
(ترجمه سلام الكواكبي بإذن خاص من فصليّة «ميديا» الفرنسيّة ـــــ عدد صيف 2008)