كاميرا «أنا قادر» ترصد معاناة البعلبكيين مع الفقر والإهمال تغيب وسائل الإعلام عن بعلبك، وإذا أطلّت فلتظهرها خارجة على القانون. محمد ياغي (23 عاماً) استعار مهمة الإعلام وصوّر في فيلم متواضع مدته ساعة ونصف معاناة أبناء بعلبك مع الفقر، الإهمال، الحرمان وغياب التوجيه
عبادة كسر
«بعلبك أنا شمعة على دراجك». يوقظ صوت السيدة فيروز هياكل بعلبك من سباتها مع بداية «جنريك» المشهد الأول للفيلم الوثائقي «صرخة ألم من بعلبك». هذا الفيلم أراده محمد ياغي (23 سنة) صرخة تصل إلى آذان المعنيين ليطلعوا على حالتي الحرمان والإهمال اللتين يعيشهما أبناء مدينته، فكانت تجربته الأولى التي دُعمت من مركز «داري» (مركز الترفيه والإرشاد العائلي) بالتعاون مع «المنظمة الدولية للهجرة» و«اليونيسف» وبتمويل من السفارة البلجيكية، بعد أن أطلقت الجهات المذكورة مشروع «أنا قادر» لدعم المواهب وتشجيعها، الذي اختار 7 مشاريع من بينها مشروع الفيلم.
من «القلعة» إلى «رأس العين» و«بركة البياضة» جالت كاميرا محمد ياغي الصغيرة، فأضاءت على تاريخ ومشاهير بعلبك، مفكريها وشعرائها وطبيعتها الخلابة. يخترق المَشاهد فجأة صوت يقول: «جرّبت تشوف بعلبك من الداخل؟ وقت اللي بيضيق فيك الطريق وتكتر الجوَر، إعرف أنك وصلت على بعلبك»، بعدها يطلق الفيلم العنان لمعاناة الناس.

أبطال بقوة الواقعالثياب رثة، والبيت هرم متشقق يمطر وكأنه السماء في فصل الشتاء، زيارة اللحمة خجولة كل سنة أو في الأعياد إلى منزلهن، أمراض الشيخوخة متروكة من دون عناية. قوتهما اليومي ما يقدّمه الحقل مما تزرعان فيه حيث تعملان به كأجيرتين...
تروي زينب معاناتها منذ كانت شابة، حين رفضت والدتها أن تزوجها بغية الاهتمام بها لما تشيخ. وهكذا استمرت حياتها بعدما توفي والدها وبقيت وحدها مع أمّها العجوز المريضة: «توفيت والدتي وترملت أختي أم أحمد فأتت وسكنت معي بعد أن توفي شقيقي بحادث سير، وأُدخل ابن أم أحمد الوحيد المعوق إلى المستشفى». بدأتا العمل في حقل بالأجرة: «يوم اللي بنشتغل فيه مناكل وإذا لأ ما في أكل».
للمعوقين وذوي الاحتياجات الخاصة حيّز في الفيلم. لبابة حليحل وشقيقها وُلدا أصمّين، كل منهما يروي معاناته، حيث أشارت لبابة إلينا بأنها عندما رأت أخاها يتحدث إلى كاميرا محمد تشجعت وحلّت زناد التردد والخوف والخجل. كما أكدت بلهجة تكاد لا تُفهم أنها لولا الاستعانة بوالدتها لما كسرت حاجز الصمت، وهي سوف تبدأ بالرسم، الموهبة التي تحب، وذلك لتبيع لوحاتها بغية إجراء عملية جراحية لها ولشقيقها.
بهية شريف أصيبت بشلل الأطفال منذ الصغر، ابنة العقد العشرين هاجسها الوحيد العودة إلى المدرسة التي رفضت أن تستقبلها ثانية. أما حيازة الكرسي النقال الكهربائي فباتت بمثابة حلم يراودها حتى تعفي والدتها العجوز، التي تعمل خارج المنزل لإعالتها، من عناء التنقل بها.
تقول بهية: «كتار بيجو من مؤسسات وجمعيات وأشخاص، يلتقطون الصور للمعوقين وذوي الاحتياجات الخاصة، ويلتقطون الصور معهم ليشحذوا عليهم». تتذكر حين «أتت إحدى الجميلات وتصوّرت مع الكثيرين من أمثالي في هذه المنطقة بحجة المساعدة، ولكن يبدو أن لديها مشروعها الخاص من خلالنا ولا تعنيها حاجاتنا».

«الوقت الفاضي»

إلى الشباب الذين يطالبون بالنشاطات الرياضية والثقافية لإعطاء قيمة للوقت كما يقول ربيع عمر: «الكزدورة هي متنفّس الشباب، فالترفيه الهادف غير متوافر في بعلبك، لكن كزدورتنا فقيرة مادياً ومعنوياً، والوقت الفاضي ببعلبك ما فيك تسثمروا بشي منيح لغياب النوادي الرياضية والمكتبات العامة. الوقت الفاضي عم نعبّيه بوقت أفضى منه».
ويضيف أحد أصدقائه ممن حضروا التصوير أن «الإكسبرسات على رأس العين أصبحت في الآونة الأخيرة منتجعاً للشباب المتناحر، حيث تحتكر السياسة والطائفية حديثهم، فباتت الكزدورة إلى هذا المكان عبئاً ثقيلاً...».
واستطاع الفيلم من خلال الإضاءة على مشكلات الشباب تقديم فرصة لأحمد صالح. الأخير كان يخجل من فقره، لكن عندما زوّدته السفارة البلجيكية، من خلال المنظمة الدولية للهجرة بالتعاون مع مركز «داري»، بالألوان وأدوات الرسم، خرج من عزلته وانطلق يحضّر لأوّل معرض كان يحلم به. يروي أحمد (24 سنة): «عندما عرض ياغي المقطع المخصّص لي من الفيلم على الجهات المختصة، أتوا إليّ ولبّوا حاجاتي لتمكيني ودعمي، ووعدوني بأن يعرضوا لوحاتي في صالة مخصصة، فهم يتابعونني دورياً ويطالبونني بالجدية والالتزام».
بدأ أحمد برسم لوحة «صرخة ألم من بعلبك» ويقول: «إذا ما بدها تكون صرخة قوية بلاها». حاجة أحمد كانت قوية للتحدّث عن معاناته، هو الحائز شهادة BT في الديكور (التجميل الداخلي)، عاطل عن العمل «باستثناء كم يوم في الشهر، حسب حاجة معلمين الباطون»، مدخوله الشهري لا يتخطى مئتي ألف ليرة لبنانية. يقول: «محمد ياغي صديق لي، لذلك تجرّأت وتحدثت في فيلمه».
كثيرة هي الهواجس التي تؤرق استقرار الشباب البعلبكي، مازن شلحة من أفراد «فرقة المجد البعلبكية» للرقص الفولكلوري، يعمل نهاراً في الفرن ويتدرب مساءً على الرقص ممارساً هوايته. بعد أن تحدث في الفيلم التقيناه وأكد أنه لا يخجل من مهنته اليومية: «أنا حكيت أمام الكاميرا لودّي صوتي الذي أؤكد أنه يعبر عن أصوات آلاف الأشخاص في لبنان، وإلى جانب الفن بدي عيش».
تتنوع المعاناة بتشعب الاحتياجات، فالصرخة واحدة باختلاف طرق التعبير. حاجات مدينة الشمس الإنسانية والاجتماعية تتطلب موسوعات من الأفلام لعرضها، وفائض من الأزمات لكثرتها. لذا الفيلم المذكور غطى عيّنات عشوائية بحيث لم تتوافر إحصاءات لتلك الحالات.
عن فكرة الفيلم يشرح ياغي: «أنا صاحب موهبة، ولأنني أتألم فعلاً لما آلت إليه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياحية كان هذا الفيلم»، وخصوصاً أن «وسائل الإعلام لا تطلّ على بعلبك إلا لتصوّرها خارجة على القانون أو لتغطي النشاطات السياسية، أردت أن أعبر بطريقتي الخاصة وأستعير منها دورها لفترة».

ضعف التقنياتأما المعوقات التي واجهت الفيلم بحسب ياغي فهي: «خوف الناس من أن نستغلهم للشحادة، منع التصوير في بعض المناطق لضرورات أمنية، عدم توافر إكسسوارات الإضاءة لتصوير بعض العائلات التي تقطن في الملاجئ، تسجيل الـVoice Over يتطلب استوديو لجودة الصوت، نوعية الصورة ضعيفة لاستخدام الكمبيوتر للمونتاج». وبالرغم من جهد ياغي الكبير فإن إمكاناته خجولة، حيث زوّدته الجهات المختصة بكومبيوتر محمول وبكاميرا ديجيتال صغيرة لا تلبي الغرض الإنتاجي والتصويري.
وفي هذا الإطار، يؤكد مدير مركز «داري» والمنتدب من وزارة الشؤون الاجتماعية وليد عساف: «سوف نساعده على تحسين نوعية الصورة من حيث التقنيات والإخراج حتى يصل إلى الناس بشكل أفضل، وسوف يطلق الفيلم في احتفال نقيمه في المركز بعد فترة وجيزة، وسنعمل لعرضه عبر المؤسسات الإعلامية المرئية».


الولاء للعشيرة تعويضاً عن الفقر؟

يدلّ المشهد الآني في بعلبك إلى غنى الماضي وبؤس الحاضر، ويطرح أسئلة عن أسباب ما تعيشه المدينة من إهمال.
الباحث الاجتماعي الاقتصادي والخبير في التنمية الاجتماعية والاقتصادية الدكتور أحمد بعلبكي يرى أن المدينة «لم تستطع أن تستغل القلعة كقطب جاذب للاستثمارات السياحية، وأن الفقر في بعلبك مؤطر ومنظوم بولاءات وانتماءات العشيرة والعائلة، لا أحد يستطيع أن يتحمل الفقر إلا إذا كان يعوّض ذلك من خلال انتماءات أخرى تزيح وعيه من البؤس الاجتماعي والاقتصادي إلى عزة الطائفة والعشيرة». متسائلاً إن كان النظام العشائري والعائلي الذي يزعم التكافل الداخلي القرابي يقوم بدوره؟ أما في ما يخص المعوقين فيتساءل بعلبكي أيضاً: «هل استطاع أيّ شكل من أشكال التدخل في المنطقة المذكورة أن يؤمن اندماجهم الاجتماعي، ما يتيح لهم فرص الاحتضان والعناية للتعامل مع أي مجتمع؟».
بدورها زينة دكاش، الاختصاصية بالعلاج من خلال الدراما، ترى أن «الخبرية ليست مسألة ثقة الناس بالشخص الذي يجري المقابلة، بقدر ما ترتبط بحجم الحاجة، فكلما كبرت الحاجة كلما عبر الشخص عن معاناته أكثر. الناس في بعلبك لديهم حاجات كثيرة، لذلك لديهم ما يقولونه للكاميرا أو للمسرح أو يفرغون هذه الشحنات بطرق تعبيرية أخرى. يشركون الآخرين ويحمّلونهم جزءاً من معاناتهم، فوجعهم لم يبقَ كامناً في داخلهم، جزّأوه ووزعوه على الآخرين بهذه المشاهد».
وتضيف: «بمجرد أن يتحدث الشخص عن ألمه النفسي لأحد، يكون قد دخل المرحلة الأولى من العلاج التي لا بد من أن تُستكمل بجلسات أخرى وربما تكون كثيرة». يبقى الهاجس: هل تستطع دكاش التي تقوم بعلاج نفسي من خلال الدراما في مركز «داري» أن تلبي حاجة كل من يعاني في هذا المجال الجغرافي؟ ومن سيتابع الجلسات الوقائية العلاجية التي بدأتها مع أشخاص ذوي حاجة من خلال مركز «داري» بعد أن تنتهي المدة الزمنية لهذه المؤسسة؟