جان عزيزشهيرة رواية كريم بقرادوني في كتابه الأشهر، «السلام المفقود»، عن حافظ الأسد، أن الرئيس السوري الراحل كان يخصص دائماً وقتاً من لقاءاته باللبنانيين، ليتقصّى منهم آخر الدعابات والطرائف التي كانوا يطلقونها على السوريين، وخصوصاً على عناصر الجيش السوري المتمركز في لبنان. ويروي بقرادوني أن أسد دمشق، كان يضحك طويلاً لتلك الطرائف والدعابات.
لا يحلل الكاتب خلفيات تلك الظاهرة، ولا يدّعى في تأريخه السياسي أداء دور المحلل النفسي، ولا عالم السيكولوجيا السوسيولوجية. فهو لا يبحث في سؤال: لماذا كان اللبنانيون يكثرون من تأليف تلك النكات؟ ولا يسبر خلفية الأسد في إصراره على سماعها، وفي الضحك، لها، أو منها، أو عليها... مع أن الانطباع الأوّلي، أو التحليل التبسيطي للسلوكين، يشير قطعاً إلى أن من يطلق تلك الدعابات كان يحاول التعويض نفسياً عن عقدة وقوعه تحت سلطة يراها أقل «حضارة» و«عصرنة» منه. كما أن العقدة نفسها، لكن معكوسة أو مطهرةً، هي ما كان يدفع الرئيس السوري إلى البحث عن تلك الطقوس اللبنانية المريضة، والاستمتاع بها.
المهم أنه طيلة نحو ربع قرن، ظل اللبنانيون يسخرون من السوريين ويهزأون، ولو تودداً أو تحبّباً. وظل السوريون يحكمون اللبنانيين، رعاية أو وصاية، أو هيمنة مستدرجة ومستدخلة، وحتى مستبطنة ومطلوبة ومنشودة. وطيلة نحو ربع قرن، ظل الكثير من اللبنانيين يقول في سرّه، أو العلن: بعد رحيل حافظ الأسد، نرى ماذا سيبقى من سوريا في لبنان، وماذا سيبقى أصلاً من سوريا.
وغاب حافظ الأسد في 10 حزيران سنة 2000، وبدأت مرحلة جديدة. ومن الملامح الأولى لتلك المرحلة تمدد ظاهرة الدعابات اللبنانية، مع الأسد الأب، كما «التنكيت» اللبناني على السوري الإنسان، وكان خوف مقنّع برهبة وهيبة حيال السوري الرئيس. بعده صار «التنكيت» على الأسد الابن، أكثر منه على جيشه أو شعبه، وصار نوعاً من كسر لمحرمات سابقة، لم يلبث أن ترجم في المواقف والسياسة. ولم تكن مرحلة الأسد الابن سهلة. ولم تكن وراثته نزهة. بعد عام ونيف على جلوسه في القصر، ضرب زلزال 11 أيلول قلب «الجزيرة الكونية» في مانهاتن. وبعده بعام ونيف أيضاً، ظهرت اهتزازاته الارتدادية في بغداد، على حدود نظامه. وفي هذا الوقت كان الداخل السوري يعتمل بحثاً عن «ربيع» عاصمته. وكان صراع خفي بين أجيال، وحرس قديم، ولوثة حرية، وشوق معاصرة. وبين تمخضات الداخل وارتجاجات الخارج، كانت الخاصرة اللبنانية في وضع أكثر إقلاقاً. تعب من ربع قرن من الهيمنة. طموح يتخطى الإطار اللبناني. وممانعة كانت قد نضجت وأينعت في مطالبتها بالسيادة والاستقلال.
تجمعت تلك العوامل كلها، ففهم الأسد الابن دقة الوضع، فأعلن في 5 آذار 2005 جلاءه الكامل عن لبنان، قبل أن يلاقيه «السياديون الجدد» في 14 منه بالصيحة الشهيرة: «إلى اللقاء سوريا».
لم يكن أحد يتوقع أن قولة «اللقاء» تلك كانت تعني ملاحقة دمشق إلى داخلها. لكن بعد أشهر، وبين حركة خدام وكنعان والأسد العمّ، رفعت، تبيّن أن اللقاء كان معقوداً في قلب سوريا، أو على الأقل كان مأمولاً. وربما كانت الحسابات مستندة إلى التجربة السابقة في الخروج السوري من لبنان، سنة 1982. يومها جلت دبابات دمشق، من أمام الدبابات الإسرائيلية. تراجع حافظ الأسد، لكن قسماً من اللبنانيين، أحزاباً وقيادات، ظل معه. وتراجع الأسد الأب لأنه رفض الانخراط في مشروع ريغان للمنطقة. وتراجع خصوصاً، لأنه أدرك ضعف موقعه في المعادلة الإقليمية والدولية، في ظل استنزاف حليفه الإيراني في حرب الخليج الأولى، وفي ظل انشغال حليفه السوفياتي، بخلافة رجل موسكو المريض بريجنيف.
يومها لم يفكر أحد في ملاحقة السوري المنسحب إلى عقر داره. مرّت أشهر قليلة، ارتكبت خلالها أخطاء كثيرة. وصل رجل الكي جي بي أندروبوف إلى الكرملين، فاستعادت دمشق المبادرة، التقطت أنفاسها، وفتح وليد جنبلاط أمامها طريق العودة إلى بيروت.
بعد 23 عاماً، اعتقد البعض أن موازين القوى أفضل بكثير، فالحليف الإيراني لم يعد في مواجهة عسكرية محدودة مع العراق، بل في مواجهة شاملة مع سيدة العالم وحاشيتها الغربية والعربية كلها. في الكرملين ضابط كي جي بي جديد، لكن انهماكه محصور في معدلات الولادات الروسية، وفي ثورات جواره، من جورجيا إلى أوكرانيا.
دمشق لم تعد أمام خيار الانضمام إلى مشروع ريغان، بل أمام خيار الانتحار إزاء سياسة «تغيير النظام». والأهم أن في سوريا الأسد الابن، لا الأسد الأب. أي من اعتاد اللبنانيون «التنكيت» عليه، لا تهيّبه ومهابته.
بعد أيام، حين يقف بشار الأسد في باريس، سيدرك اللبنانيون، أنهم أخطأوا مرة أخرى. لكن الأهم أن يدرك السوريون ألّا يخطئوا ثانية، لا بالعودة، ولا بالهيمنة، ولا حتى بالتدخل. وليتركوا اللبنانيين في حرفة «التنكيت»، حتى يكتشفوا أنفسهم ذات يوم.