يخضع لـ«تقسيم مناطقي» وزوّاره يحبونه رغم الغلاء والتلوّث أحمد محسن

تحّول الذهاب إلى البحر من نزهة أسبوعية إلى «مغامرة» مكلفة. مكلفة لأن ارتفاع الأسعار الذي طال كلّ شيء وصل إلى المسابح. فبات الراغب في السباحة يشكو التكاليف بدءاً من أجرة الطريق وصولاً إلى رسم الدخول إلى المسابح التي رفعت أسعار بضائعها «الحصرية». وارتياد البحر «مغامرة» بسبب الوضع الأمني الذي فرض على الذاهبين إلى البحر حساب هوية الشواطئ بدقة، فباتوا يقيسون الطريق إليها ديموغرافياً. في السنوات الماضية عاش ساحلَيْ لبنان الجنوبي والشمالي عزلةً غير معلنة، فقلّما ارتاد رواد الساحل الجنوبي الساحل الشمالي والعكس صحيح، لكن العزلة تفاقمت بين الساحل الواحد، واتسعت رقعة التقسيم بين اللبنانيّين لتمتدّ من أرضهم إلى بحرهم.

مناطقية

من الطبيعي جداً أن يقصد الجنوبيون شاطئ صور، ويلجأ أهل الشمال إلى شواطئ الميناء وطرابلس، لقرب المسافة وسهولة التنقل في الطرقات القريبة من أمكنة سكنهم، لكن ماذا عن سكان المدن؟
بعض الشباب ما زالوا يتخطون التوزّع السياسي بين المناطق، ويسيطرون على علاقتهم بالبحر. هلال (25 عاماً) يقطن في محلة الجناح، ويعتبر نفسه «ابناً للمنطقة ولبحرها»، لكنه يفضل حتى اليوم شواطئ جبّيل والكسليك رغم المسافة الطويلة التي يترتب عليه اجتيازها. لا ينفي أنه يواجه صعوبةً في إقناع أصدقائه بمرافقته إلى شواطئ شكا والبترون، لكنه يجد من يوافقه الرأي ولا يأبه كثيراً بالذهنية المناطقية.
محمد (23 عاماً) ليس من هؤلاء ويفضّل أن يقطع مسافةً أطول باتجاه بحر صور «لأنه يرتاح هناك»، وأسباب راحته لا تقتصر على نظافة الشاطئ بل تتخطى ذلك وتصل إلى ما يصفه محمد بـ«طبيعة المنطقة». على الطريق التي يقطعها محمد إلى صور، يمرّ بمسابح كثيرة تتخطى عدد المقاهي في وسط بيروت التجاري لكثرة عددها، مما يدل على علاقة اللبنانيّين الإيجابية بالبحر، وكثافة عدد مرتاديه. هذه المسابح لا تعني شيئاً لكريستيل (26 عاماً) التي ترى أن البحر بالنسبة إليها «يبدأ من الكسليك وينتهي في البترون»، فهي لم تعتد زيارة المتن الجنوبي يوماً ولا تريد أن تزوره اليوم لأنها اعتادت مسابح معينة، ولأن «الوضع قد يتأزم في لحظة»، فيفسد «مشوارها» وربما تسوء الأمور أكثر من ذلك وقد يقطعون الطريق".
وفي هذا الإطار، يقول أحد الآباء «بإمكان الشباب تدّبر أمورهم لأنهم لا يملكون عائلات» في إشارةٍ منه إلى خوفه على عائلته، معتبراً الذهاب إلى البحر نوعاً من الاستجمام «يمكن تأجيله حتى تهدأ الأوضاع». لكنه لم يلغ الأمر نهائياً من حساباته، فيأخذ العائلة إلى الأماكن القريبة منه كـ«السعديات وشواطئ خلدة القريبة» في إطار الحديث عن الشواطئ العشوائية التي تعتمدها العائلات مسابح مجّانية تسيطر عليها الفوضى نتيجة فرار الناس من غلاء المسابح المنظمة.

المنتجعات السياحيةحبيب ينضم إلى حسن في غضبه، ويشرح كيف أن سعر قنينة الماء في أحد المسابح صار 6000 ليرة، وكيف فتح أحد السيّاح يوماً ما زجاجة شمانيا قيمتها 1200 دولار. «هذه الأمور تحصل في كل العالم» يتابع حبيب لكن ليس من المعقول برأيه أن تتحوّل شواطئ اللبنانيّين إلى مكان يشبه «وسط بيروت التجاري «فلا يملكون إلا إمكان النظر إليه». يعطي مثلاً حسياً، فيسمي مسبحين متلاصقين في منطقة الجيّة «أحدهما شعبي يغص بالزوّار رغم رداءة التجهيزات، والثاني يعتمد على شكل الزبون وموديل سيارته للسماح له بالدخول أو عدمه»، علماً أن التكلفة مرتفعة في الأساس في هذه المنتجعات فتبدأ بـ15$ وتنتهي بـ45$ في السواحل الشمالية، التي فقدت بدورها شواطئ شعبية كبيرة، كما يؤكد جورج جرجس أحد سكان جبيل.
ثمة اعتراضات أخرى على تغّير هوية البحر، كتلك التي يرويها عبد الله عيتاني (26 عاماً)، «المسابح صارت تزيد تعرفتها على الشبّان حين يأتون بمفردهم» (أي بلا فتيات)، مما يضطرهم أحياناً إلى «تركيب الأمور بطريقة غريبة» كي يتهرّبوا من تكاليف قد تكون إضافية. المسابح تبرر تصرفها القاسي مع الشبّان باتهامهم بـ«افتعال الإشكالات»، والاشكالات هنا تعني تبادل الضرب، لا الإشكالات الحقيقية التي يعانيهها البحر في لبنان، والتي تتمثل بحالة التلّوث المخيفة وتوابعها.

اطمئنوا: البحر ملوّثالمسؤولية لا تقع على اللبنانيين وحدهم، فالعدوان الإسرائيلي زاد الطين بلّة، بعدما أفرغت الطائرات الإسرائيلية وقودها داخل الشواطئ اللبنانية في الحادثة الشهيرة التي أثارت حفيظة جمعية "Greenpeace" آنذاك (آب 2006). أما الدولة اللبنانية، فقد أوضحت عبر وزير البيئة المستقيل يعقوب الصراف أن «القصف فتك بنظام الأمان في خزانات الوقود في معمل الجية الحراري»، الذي أعلم سكان بيروت والقاطنين على بعد 30 كيلومتراً منها أنهم يتنشقون موادّ كيمائية سامة منذ حادثة القصف الشهيرة، مرجحاً أن تستمر حالة التلوث فترة طويلة.
الفترة يتوقع أن تطُول، ليس لأن تكلفة تنظيف الشاطىء تقارب 150 مليون دولار وحسب، بل لأن «إسرائيل» مستمرة في تلويث الشاطئ، إذ يشير الباحث السوري حسني العظمة في كتابه «تلوث البحر الأبيض المتوسط» إلى أن «إسرائيل تنفرد، بين فرنسا وإيطاليا وإسبانيا (الدوّل الأكثر تلويثاً للبحر الأبيص المتوسط) بمسؤولية أشد خطورةً إذ يذكر باحث من منظمة (GreenPeace) أن إسرائيل هي البلد الوحيد في العالم الذي يسمح بطرح روتيني للنفايات الصناعية إلى عرض البحر ليحملها تيار شرق المتوسط الجنوبي شمالاً إلى المياه البحرية والشواطئ اللبنانية».
ورغم عشرات الدراسات التي تحّذر من مخاطر التلوث، يتعامل اللبنانيون مع البحر كأنه «موضة صيفية»، وأغلبهم لا يلتزم بتعليمات الوقاية، كارتداء قبعة واقية من لهيب الشمس، واستعمال زيوت الحماية المناسبة. تجدر الإشارة إلى أن حالة ابتلاع المياه بشكلٍ مباشر أو غير مباشر هي التي تؤدي إلى المرض، ولذلك على اللبنانين أن ينتبهوا من ابتلاع مياه بحرهم، لأنه الوحيد الذي يملكونه اليوم، بعدما ابتلع السياسيون بلدهم.


عروس (ع) البحر؟

ازداد عدد المسابح غير المختلطة بشكلٍ ملحوظ في الآونة الأخيرة، لتحسن فرضية الربح المادي المترتب عليه من جهة المستثمرين، ولكونه يشكل ملاذاً لكثيرات لا يحبذن الاختلاط بين الجنسين. ليال (36 عاماً) هي إحداهن بسبب التزامها الديني «لكنني لا أحرم نفسي من البحر» تقول بثقة، وتشرح أن المسابح غير المختلطة تتفاوت في المستويات هي الأخرى كما مثيلاتها العادية.
توضح ليال ممازحة أنها كانت تخشى في البداية «من تسلل بعض الرجال» لكنها الآن واثقة تماماً و«مطمئنة» لإدارة المسبح الذي ترتاده.
وفاء (22 عاماً) تذهب أكثر من ذلك، مؤكدة أن الأجواء بين «البنات وحدهم» أجمل وأفضل، لأأنهن «يأخذن راحتهنّ»، فيقمن حلقات الدبكة المتواصلة، ويرقصن من دون أن يحسبوا ألف حساب»، وتشير إلى كتفها حيث يوجد وشم أحمر على شكل وردة، قامت بوشمه لها «إحدى الصبايا على البحر».
كل شيء موجود على البحر حتى العرائس، تقول أم علاء التي تعرفت إلى زوجة ابنها في أحد المسابح. «ليس في الأمر حياء، يجب أن نرى كل شي ء فيها، والمكان المنطقي لذلك كان البحر» ، كما تقول أم علاء بهدوء، وتضحك سامية زوجة ابنها بخجل.
تجمع المسابح غير المختلطة التفاوت في الأجيال، من الأطفال حتى كبار السن، الأمر الذي يندر وجوده في المسابح العادية حيث تطغى الفئات العمرية الشابة على زوّار البحر، وينطوي على هذا التنوع نتائج عديدة وطريفة، أغلبها الأسئلة الكثيرة التي تتلقاها «الفتيات الجميلات» من سيدات أكبر سناً عن عزوبيتهن.