جان عزيزيروي أحد «الساعين» على خط التواصل السنّي ـــ الشيعي، أنه بادر بعد حوادث بيروت في 7 أيار الماضي إلى الاتصال بقطب «مستقبلي» كبير، لجسّ النبض حول إمكان استئناف بعض الحركة أو البحث أو الحوار. فسارعه القطب المذكور قائلاً: «لم يعد من لزوم لأن تتكلموا معنا. من الآن فصاعداً، يمكنكم التحاور مع الشهّال أو حتى مع الظواهري إذا أردتم....». ولم تتأخر النبوءة، علماً بأن إرهاصاتها كانت سابقة. بدليل بيانات قديمة للظواهري نفسه، ولتنظيم القاعدة في بلاد الشام، ولغيرها مع التسميات، حول الوضع في لبنان، وحول تكفير شيعة ومسيحيين، ونقل المسرح اللبناني من أرض نصرة إلى أرض جهاد. لكن الأهم هو أن نبوءة القطب المستقبلي لم تلبث أن تحققت في طرابلس.
بعد أيام على المعارك المسلحة بين التنظيمات السنّية في باب التبانة وتلك العلوية في جبل محسن، تعيد أوساط طرابلسية مطلعة رسم صورة الوضع، بالكثير من القلق. فاللافت أن البقعة العلوية في عاصمة الشمال، تمثّل جزيرة معزولة ومحاصرة بالكامل، وسط جوارها السنّي. فإلى غربها تقع منطقة التبانة، معقل البؤس التاريخي المزمن والمتكلّس، وفيها عصب حياتها ومعيشتها واقتصادها البدائي، شارع سوريا ـــ للمصادفة ـــ مركز كل اشتباكات المنطقة منذ السبعينيات، ومنطلقها.
أما من الجهات الثلاث، جنوباً وشرقاً وشمالاً، فيقع جبل محسن بين أفكاك كماشة القبة، وحارة البقّار.
وتروي الأوساط نفسها، أنه إبان الحروب الأهلية السابقة، كان «البعل» يعمد عند الحاجة، إلى كسر «حصاره»، بتحقيق خروق آنية ولوجستية، في اتجاه مخيم البداوي إلى شماله الغربي، وذلك عبر «منطقة المنكوبين» الفاصلة بين العلويين والفلسطينيين. وهو ما بات اليوم مستحيلاً، نظراً إلى تبدل المعطيات السياسية والواقعية، أكان في المخيم المذكور، أم في ذلك الشريط الفاصل المنكوب.
هكذا، تؤكد الأوساط الطرابلسية أن جبل محسن، يعدّ اليوم ساقطاً كلياً، بالمفهوم العسكري البحت. وهذا «السقوط» انعكس بوضوح في الأداء العلوي، الداخلي والخارجي.
فلجهة تنظيمات جبل محسن، كان حرص واضح ودؤوب على الوصول إلى معادلة عسكرية دقيقة جداً، وعنوانها مزدوج: إظهار القدرة على الردع الحاسم من جهة، وتأكيد الإرادة الكاملة على عدم الاستفزاز أو التحرّش أو الاعتداء، من جهة ثانية. أما لجهة البعد السوري لهذه المنطقة، فكان لافتاً قبل يومين كلام لصحيفة «تشرين» في دمشق، يضع حوادث طرابلس في إطار الوضع الاجتماعي البائس والمزمن للمنطقة برمتها.
وتؤكد أوساط مطلعة أن هذا «الحصار» العسكري يقف على ما يبدو في مواجهة أطراف ثالثين، على طريقة «الطابور الخامس»، في سياق استمرار عمليات التفجير والتوتير. وتحلل أن هذه الأطراف الداخلة على الخط، قد تكون ساعية إلى أمر من اثنين: إما الضغط العسكري الدائم على جبل محسن، بهدف دفعه إلى كسر حصاره صوب عكار وما خلفها، مع ما يعني ذلك من استدخال إضافي ومجدد لعوامل الصراع الخارجي على الساحتين الشمالية واللبنانية، وإما دفعه إلى تواصل قسري شرقاً، عبر حارة البقّار، نحو مجدليا وزغرتا، وذلك من أجل إعادة المشهد الطرابلسي إلى عام 1975، في ظل خطوط تماس إسلامية ــــ مسيحية جديدة.
في مقابل هذا الوضع العلوي، وإزاء إصرار «تيار المستقبل» على تنصّله من مسؤولية الحوادث، من يسيطر على الساحة السلفية الطرابلسية؟ الأوساط نفسها تشير إلى أن التيار السلفي في عاصمة الشمال هو من أكثر التنظيمات تعقيداً وتشعّباً. ففيه أولاً هذا التمييز غير المحدد، بين السلفية الجهادية»، أي المسلّحة، و«السلفية الفكرية» غير المسلّحة. غير أن هذا التمييز لا يبدو قائماً على أرض الواقع، وبين القواعد المتحركة عصبياً.
وتشرح الأوساط نفسها مثلاً، أن نائباً سابقاً بات من أبرز رموز هذه الحركة، إضافة إلى شخصية أخرى ثبت ترددها على سفير عربي فاعل في لبنان، فضلاً عن تركيبة «المكتب السياسي الإسلامي» التي تضم عدداً كبيراً من المكوّنات السلفية، لتنتهي بمجموعة لا تحصى من الأشخاص غير اللبنانيين، الذين رعتهم أجهزة السلطة طيلة الفترة الماضية.
تبقى مسألة أخيرة: ماذا سيفعل الجيش اللبناني؟ الأوساط الطرابلسية تروي مفارقات غريبة عجيبة حول «حياد» الجيش والقوى الأمنية في المعارك الأخيرة، فيما تؤكد أن أي خطة حاسمة تتخذ الآن وسريعاً، ستكون كفيلة باستئصال ورم متفجر، فيما تركه من دون إقدام جذري، قد يفتح الباب أمام مخاطر، أين منها «مزحة» نهر البارد قبل سنة ونيف. قبل أن تسأل الأوساط نفسها: هل المسألة متعلّقة بحسابات سياسية تتخطى الوضع اللبناني؟ يبقى الأكيد أن العاصمة الثانية تعيش على خط زلزال قد يكون الأكبر.