strong>يعاني فقراء كثيرون من عدم القدرة على دفع أتعاب المحامين في حال اضطرارهم للجوء إلى القضاء. برنامج المعونة القضائية هو الحل. يوم أمس، صدر حكم قضائي يؤكد حقّ معسري الحال، لا الفقراء فقط، بالاستفادة من المعونة القضائية، ناهيك عن خفض الأعباء عن المدعى عليهم باللجوء إلى المحكمة التابع لها محل سكنهم
في خطوة قضائية لتفعيل حق الإنسان بنيل محاكمة عادلة تضمن له الدفاع عن نفسه، أصدرت محكمة الدرجة الأولى في جبل لبنان ـــــ الغرفة الثالثة في جديدة المتن، الناظرة في طلبات المعونة القضائية، يوم أمس حكماً منحت فيه المعونة القضائية لسيدة مدعى عليها في بيروت، مؤكدة أن المعونة ترتبط بعُسرِ الحال لا بالفقر فقط. وقد فصّلت المحكمة ـــــ التي يرأس هيئتها القاضي جون القزي وعضوية القاضيين: آلاء الخطيب وناجي الدحداح ـــــ في مسألة اختصاصها، من الناحية المكانية، لبتّ طلب المدّعى عليها منحها معونةً قضائية تعفيها من مصاريف المحاكمة ويُعَيّن لها بموجبها محامٍ تنتدبه نقابة المحامين. فالمستدعية مدعى عليها في بيروت، وتقدمت باستدعائها في المتن، لكن المحكمة المذكورة رأت أن المبدأ الذي يرعى هذه المسألة ينطلق من وجوب المواءمة بين حسن سير إجراءات التقاضي وتأمين المعطى الواقعي الأسهل تبعاً للمعيار المكاني الأقل كلفة لطالب المعونة، الذي يدفعه واقعه المتعسّر إلى المطالبة بإعفائه من المصاريف اللازمة للدعوى. وبالتالي، أضافت المحكمة، «لا يستقيم ضمن هذا المنحى تكبيدُه المزيد من النفقات وتكبيلُه بآليات، لجهة الاختصاص المكاني، تأخذ منه في الشكل ما أعطاه النص إياه في الأساس».
وأورد متن الحكم الصادر أمس عن محكمة الدرجة الأولى في جبل لبنان ـــــ الغرفة الثالثة في جديدة المتن، أن السيدة مها خ. تقدّمت باستدعاء أمامها يوم 19/3/2008، طلبت فيه منحها المعونة القضائية، كي تتمكّن من ممارسة حق الدفاع في الدعوى المرفوعة ضدها أمام محكمة الأجور في بيروت. وعرضت المستدعية أن وضعها المادي مُعسِر، ما يبرر استفادتها من هذه المنحة، ولا سيما أنها أرملة ولديها ستة أولاد، أكبرهم في التاسعة عشرة من العمر، أما أصغرهم فهي فتاة تبلغ الحادية عشرة. وذكرت المستدعية أنها تعمل في إحدى الشركات الخاصة براتب شهري مقداره 350 ألف ليرة، وأنها تملك مع أولادها شقة سكنية تستقر فيها العائلة.

الاختصاص المكاني للمحكمة

رغم أن المادة 428 من قانون أصول المحاكمات المدنية تنص على أنه «إذا كانت الدعوى سترفع إلى القاضي المنفرد، فيقدم طلب المعونة إلى الغرفة الابتدائية التي يكون القاضي في منطقتها»، إلا أن المحكمة رأت أن القانون لا يُلزِم طالب المعونة المدعى عليه بخيار المدّعي، ويكون لطالب المعونة المدعى عليه أن يقصد المحكمة التي يقيم ضمن نطاقها الإقليمي لينشد الاستفادة من منحة المعونة. ورأت المحكمة أن القول بغير ذلك «من شأنه أن ينزع عن مؤسسة المعونة القضائية مفهومها وغايتها، وعوضاً عن التوفير والتسهيل نكون أمام التكبيل والتقييد والتكبيد».
وبعد حسم مسألة اختصاصها لبتّ طلب المستدعية، أوردت المحكمة أنه «يقتضي الوقوف عند المفاهيم التي تقوم عليها مؤسسة المعونة القضائية، منحةً ومعياراً وآليةً وضابطاً وتبعةً ومساءلةً، لبيان مدى توافر الشروط المبرِّرة مضموناً ومفاعيل. وحيث في هذا السياق، يكون لكلّ من عَسُرَت حاله، وعَجِز عن دفع رسوم المحاكمة ومصارفاتها، أن ينشد الاستفادة من منحة المعونة القضائية تأميناً لحق التقاضي وتجسيداً لقدسية الدفاع. وللتحقق من واقعة الإعسار هذه، باعتبارها باتت المعيار ـــــ الفيصل في الإسناد، افترض المشترع مساراً شكلياً لا يمكن تجاوزه، حتى إذا ما توافر هذا المسار أمكن ولوج الأساس تبريراً أو منعاً، تبعاً لما قام من معطيات ووقائع، من شأنها متقاطعة أن توجه إلى النتيجة المتلائمة مع الواقع والقانون. وحيث من هنا، فإن ضابطين اثنين باتا وعلى الصعيد الشكلي، يرعيان هذه المؤسسة: يتمثل الأول بإرفاق مستندين يُعنيان، بحسب النص القانوني الملزم، بالإضاءة على واقعة الإعسار بتأييد من السلطة المحلّية المختصة، وبتصريح من مديرية الواردات في وزارة المال، يفيد بالواقع الضرائبي.
أما الثاني فيوجب أن تكون المطالبة بالمعونة مرفقة بالإنتاجية. وفي السياق ذاته تظلّ الصلاحية معقودة للمحكمة بأن تتحقق من مدى عُسرِ حال طالب المعونة، فلا تكتفي بما يلحظه المستندان المطلوبان». فالتملك، برأي المحكمة، لا يؤكّد اليُسرَ بشكل حُكمي، كما أن انتفاءه لا يَستَتْبع العسر بشكل حتمي. وتوضح المحكمة مقصدها بالقول إن «الملكية المثقلة بقيود لا يمكن أن تؤلف قرينةً حاجبةً للمنحة، كونها مثقلة بما يحول دون استفادة صاحب الحق منها».
وتضيف المحكمة أن ملكية المنزل العائلي، لا يمكن لها أن تشكّل مانعاً يحول دون نيل المعونة القضائية، لأن هذه الملكية لا تدخل في إطار التعامل التجاري أو المالي، بل هي «تنحصر في السياق الانتفاعي الذي لا يمكن لأي تشريع أن ينال من استقراره، طالما أنه على تماس مع معيشة العائلة ومقتضياتها الأساسية التي من صميمها السكن والإقامة باستقرار». ورأت المحكمة «أن القول بغير ذلك من شأنه أن يُخرج مؤسسة المعونة القضائية من مفهومها الإنساني والحقوقي والاجتماعي والحمائي، ويُدرجها في خانة «الإفقار»، هي التي تجاوزت المفهوم المجتمعي «للطبقية»، عبر اشتراطها «الإعسار»، لا «الإفقار» سنداً مبرِّراً».
وسألت المحكمة في متن قرارِها عن مدى استقامة الطلب من طالب المعونة الذي يملك شقة سكنية أن يبيعها ليتمكن من ممارسة حقه باللجوء إلى القضاء، لترى «أن حق الدفاع لا يمكن أن يعني نَزعاً للاستقرار العائلي»، معتبرة أن المفاضلة بين حق الملكية وحق التقاضي لا يمكن أن تجري «بشكل سليم ومنتج».
وخلصت المحكمة إلى اعتبار أن المعطيات الموضوعة بين يديها تفيد بشكل مؤكد أن الواقعَ المعيشيَّ الصعب الذي تنوء تحت ثقله المستدعية وعائلتها يبرر لها استفادتها من المنحة التي «ما استنبطها المشترع إلا لمثل هذه الحالات». وعلى هذا الأساس، حكمت، بالاتفاق، «بحفظ الصلاحية وبمنح المستدعية المعونة القضائية لتمكينها من ممارسة حق الدفاع، تمثيلاً وتدليلاً ومصارفات، في دعوى الأجور موضوع المطالبة، وبإبلاغ النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان ونقابة المحامين في بيروت لإجراء المقتضى الملائم».