بان كي مون تاه في مزارع شبعا: ليفني تحذّره ورايس تشجّعه نيويورك ـ نزار عبود

بعد الثامن من أيار لم يتوقف ناظر القرار 1559تيري رود لارسن عن «الطيران» بين العواصم الأوروبية والخليجية. وفي كثير من الأحيان اكتسبت حركته طابعاً غير اعتيادي، لكنه لم يفد رئيسه بان كي مون بنتائج تذكر من جولاته، واقتصرت مشورته على ترقيع الخطط، مصارحاً إياه بأن القرار 1559 قد انتهى، وكذلك دوره.
وعجز بان أيضاً عن قراءة أفكار الأميركيين بعدما أسقط في يدهم على أكثر من جبهة ومحور. وهو يتلقى في هذا الإطار رسائل متناقضة منهم ومن الإسرائيليين. فوزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني حذّرته من أن مزارع شبعا خط أحمر، طالبة وقف عمل خبير
الخرائط.
ثم جاءته وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس وحثته على مواصلة مساعيه مع الحكومات المعنية بالمزارع، والتجاوب مع رغبة «الحليف» السنيورة في وضعها تحت وصاية الأمم المتحدة ريثما يتم تحديدها، معتبرة أن هذا يجعلها خارج إطار التجاذبات
الإقليمية.
لكن ذلك يحرج مسؤول المنظمة الدولية: إذ كيف يطبّق جزءاً من القرار 242 عبر الانسحاب الإسرائيلي من مزارع شبعا ووضعها تحت سلطة الأمم المتحدة، ولا يطبّقه كاملاً؟ وإذا أراد أن يضع المزارع ضمن القرار 425، فإنه يعترف حكماً بلبنانيتها، قبل أن يصدر قرار رسمي بذلك من الأمم المتحدة. ورطة قانونية يحتاج إلى اجتهادات وفتاوى تخرجه منها.
هنا وجد بان كي مون نفسه ممزّق الولاء، وآثر توخّي قدر أكبر من الحياد.
وعبّر عن ذلك في تقريره الأخير عن القرار 1701 الذي خلا من مواقف واضحة معهودة لطالما كررها. فقد اكتفى بالسرد وترداد المواقف الإسرائيلية والسورية واللبنانية وغيرها، وامتنع عن توجيه الاتهامات جزافاً، أو تسجيل مواقف لا يمكن صرفها. وعبّر عن قلق من الوضع الجديد الذي أدّت إليه حوادث أيار في لبنان واتفاق الدوحة.
وضعٌ يجعل الأمم المتحدة وما تمثّله من إرادة دول نافذة في مجلس الأمن الدولي، قلقة بصورة خاصة على البيئة التي تعمل فيها قوات اليونيفيل في جنوب لبنان. وتحدّث أيضاً عن أهالٍ لا يثقون بالقوات التي تتربص بهم وتعاملهم بريبة، وعن مسلّحين مجهولين يمثّلون خطراً ما، وأن هناك وضعاً في الجنوب يختلف عن سائر المناطق اللبنانية التي تعيش نزاعات متنوعة، رغم أنه تمتع بالهدوء التام عندما كانت مناطق أخرى تعيش التفجيرات المتنقلة على مدى أكثر من
شهر.
وجاء في تقريره ما يظهر العجز في التصور والرؤية ليتحدث عن إنجازات وهمية، من خلال إحراز تقدم كبير في إنشاء مكتب الارتباط الاستراتيجي في تل أبيب، وعن امتلاك اليونيفيل لطائرات استطلاع متناهية في الصغر ترصد كل شيء، وعن شراء اليونيفيل لمعدات إلكترونية أخرى واقتناء أنظمة تحليل للمعلومات التي يتم جمعها، وعن حق اليونيفيل في التقاط الصور بموجب تفويض القرار الدولي، وعن ضبط البحر والمطار دون الجو، وعن استئناف قريب لعمل فريق التحقق المستقل من الحدود بين لبنان وسوريا (ليبات).
ولم يأت بان في تقريره على ذكر المحكمة الدولية حتى عندما ووجه بسؤال عنها في لقائه الصحافي الأخير قبل سفره إلى شمال شرق آسيا، وآثر الرد على قضية مزارع شبعا، وقال إنه لن يبتّ شيئاً قبل العودة إلى الأطراف وبالتشاور مع سوريا وإسرائيل، فضلاً عن لبنان. وسيعقد لقاء مع الرئيس السوري بشار الأسد في باريس، الأسبوع المقبل، بعد اتصاله به هاتفياً حول مجمل قضايا المنطقة، وكان آخرها قضية المزارع.
دخل بان كي مون في التفاصيل مبتعداً عن الرؤية الإقليمية العامة تقطيعاً للوقت. فالتعليمة للمرحلة المقبلة ما زالت تنتظر نتائج مفاوضات أنقرة وإسطنبول ما بين سوريا وإسرائيل.
وهذه المفاوضات بدورها لا تزال تنتظر نتائج الانتخابات الأميركية، وخاصة أن الإدارة الحالية تتردد في المشاركة بما بقي لها من عمر في عملية جيوسياسية بهذه الضخامة.
ويدرك بان كي مون أنه في زمن «السبات الشتوي الأميركي»، قبل الانتخابات، انتقلت الجاذبية الدولية إلى أوروبا والشرق الأوسط. حيث باريس، التي تقود الاتحاد الأوروبي هذا العام، تتميز بحيوية ريادية فقدتها لندن منذ أفول نجم طوني بلير في حرب تموز.
الفرنسيون، من ناحيتهم، يتمتعون حالياً ببراغماتية جديدة اكتسبوها في جمهورية ساركوزي المستفيد من انحسار المدّ الأنغلوسكسوني. وهو على استعداد للحوار بكل انفتاح مع سوريا وغيرها، استباقا لـ«آتٍ أعظم». المسألة لم تعد تتعلق بالخوف على رقعة جغرافية استراتيجية، بل على هياكل عالمية معرضة للانهيار إذا تفجّر بركان النفط في الخليج.
هناك نظام اقتصادي دولي ينوء تحت وطأة عوارض مَرضَيّة لم يعرف الطب مضادات لها بعد، وهناك عاجزون ضعفاء ليس في لبنان وحده، بل في المنظومة الإقليمية، لم يعد ممكناً الرهان عليهم لفترة أطول. والخوف يتعاظم من أن تأتي البدائل من نمط الإخفاق
العراقي.


تأمّل يائس

في مرحلة التأمل الحالية التي لم يعد يجدي فيها لارسن ولا بان، يخشى فريق «ثورة الأرز» مشروعاً لتلزيم لبنان للاعب إقليمي قوي، تكراراً للماضي. وبات يتحسس التجاهل شبه التام لدوره، وخاصة بعد زيارة رايس الوداعية، ويراقب بغصّة موسم الحجّ إلى دمشق. حتى الرياض لم تعد تفعل فعلها، وتكتفي بتوزيع «جوائز ترضية». وهذا الفريق الذي طالب بتدخل عسكري خارجي، سيكتشف متأخراً استحالة عودة الانتداب، لأن في لبنان تحالفاً قوياً لا يستطيع رد العدوان الإسرائيلي وحسب، بل يفرض احترام الشقيق السوري والحليف الإيراني للاستقلال والوحدة. وفي هذه الأثناء، على مجلس الأمن انتظار نتائج المشاورات والمفاوضات قبل أن يصدر موقفاً حول تقرير بان عن القرار 1701، فهناك تغيّرات كثيرة تؤثر على لبنان، وتتأثر بقوته ومناعته.