انتهت أمس أعمال المؤتمر العالمي للآثار الذي انعقد في دبلن بين 29 حزيران الفائت حتى الخامس من الجاري. المؤتمر الذي يعقد كلّ أربع سنوات ناقش مواضيع جديدة في علم الآثار، أبرزها النقاش الحاد الذي دار حول ضرورة وجود أخلاقيات للمهنة، وخصوصاً في ضـوء السرقات المتكررة لآثار دول العالم الثالث. إضاءة:
دبلن ـ جوان فرشخ بجالي

تجوّل 1800 عالم آثار من 80 دولة مختلفة الأسبوع الفائت في أرجاء جامعة دبلن (University College of Dublin) في إيرلندا خلال انعقاد مؤتمر الآثار العالمي السادس الذي تنظمه فرق أكاديمية من مختلف أرجاء العالم كل أربع سنوات.
وتميّز مؤتمر دبلن بدقة لافتة في التنظيم، فغابت الهفوات رغم ضخامة الحدث. من غرف الجامعة إلى الباصات والطعام والقهوة والرحلات إلى المواقع الأثرية... التنظيم جدي لدرجة ينسى فيها المشترك العدد المرتفع للمشاركين. وكانت الجامعة التي استضافت المؤتمر قد طلبت من عدد من أساتذتها التفرّغ، خلال السنة الماضية، من عملهم الدراسي للتحضير للمؤتمر.
عن تنظيم المؤتمر وتمويله، يقول البروفسور دانييل كووني، الأمين العام للمؤتمر ومدير قسم الفنون في جامعة دبلن «إن الحدث العالمي لاقى دعماً كبيراً من الوزارات الإيرلندية التي تعنى بقطاع الآثار، مثل المجلس الأعلى للآثار، ووزارة الأشغال العامة (التي يجري التعامل معها بالنسبة إلى حفريات الإنقاذ على الطرقات)، والمتحف الوطني، وقد قدّموا الدعم المادي لنجاح المؤتمر الذي وصل إلى نصف مليون يورو. وقد وُزّع أكثر من 100 ألف يورو كهبات لدعم سفر الزملاء من الدول الأفريقية والدول الفقيرة. فهدف هذا المؤتمر الأول هو جمع العلماء من مختلف أقطاب الأرض للتباحث في أمور الاختصاصوعن تنظيم حلقات الحوار، تقول بلايز أو كونور، وهي طالبة دراسات عليا في الآثار تفرغت لتنظيم جلسات الحوار: «وصل عدد الجلسات إلى 200، مقسّمة على خمسة أيام وتدخل تحت 37 عنواناً كبيراً. ففي الوقت نفسه، وفي أرجاء أضخم مبنى في الجامعة، كانت تقام 18 حلقة حوار تتراوح مواضيعها ما بين «علم الآثار في أوقات الحروب»، «المحافظة على الإرث الثقافي»، «استعمال التقنيات الحديثة لاكتشاف المواقع»، «روحانية الآثار القديمة»، «الآثار في التعليم المدرسي»، «تقنيات العمل مع المجتمعات المحلية للترويج للآثار»، «المطالبة برفات الأقدمين».
بعض من تلك المواضيع يُطرح للمرة الأولى، فمن المعروف عالمياً أن هذا المؤتمر يمهّد للنظريات الجديدة في علم الآثار. واللافت للنظر كان تهافت الطلاب والأساتذة إلى القاعات التي جرى التباحث فيها على إيجاد مدوّنات لقواعد السلوك، وكان السؤال المثير للنقاش: هل يجب أن يصبح لعالم الآثار سلوك معين يفرضه على نفسه بحسب اختلاف الحالاتوقال المدير التنفيدي للمؤتمر، البروفسور بيتر ستون: «إن للأطباء قسم أبقراط الذي يتعهدون فيه معالجة المرضى، ولكنهم اليوم في بعض الدول يساعدونهم على الرحيل إلى العالم الآخر. العالم يتغير وكذلك الوضع بالنسبة إلى الآثار. فهذا العلم يتطوّر يوماً بعد يوم، وقد دخل حتى في خضم المناقشات السياسية والعسكرية». فبعد سرقة متحف بغداد، لم تعد جيوش الاحتلال في العالم تريد أن تحمل صبغة «مجرمي الثقافة والتاريخ»، لذا فهي تطلب من علماء الآثار في بلادها مساعدتها لتجنيب المواقع الأثرية والتاريخية الأذى. ولكن، كيف على العلماء أن يتصرّفوا في تلك الحالات؟ تساؤل تبعه نقاش حاد لتحديد قواعد سلوك يلتزم بها كل عالم آثار تساعده على اتخاذ قراراته في «الأوقات الصعبة» كما قالوا عنها.
وتقول البروفسورة كلير سميث، رئيسة منظمة المؤتر العالمي للآثار إن «هذه المنظمة تعمل بشكل مكثف على التبادل العلمي والأكاديمي، وعلى التواصل بين علماء الآثار من مختلف أقطاب الأرض. وبذلك تحاول المنظمة أن تحدث تغييراً على الأرض، فالمساعدات المادية التي قدّمت لأكثر من 250 مشاركاً من الدول الفقيرة، وللسكان الأصليين (من أوستراليا وأميركا ونيوزيلندا) تهدف إلى توسيع إطار التبادل في الخبرات ووجهات النظر. وما يميّز هذا المؤتمر عن غيره في العالم، هو حريته وديموقراطيته. ففي كل دولة أعضاء يمثلونها، ولهم الحرية في اختيار فرد واحد لانتخاب الرئيس، بهذه الطريقة لا يكون لوفد الولايات المتحدة مثلاً الذي قد يتخطى عدد أعضائه الـ200 حق في الاقتراع أكثر من أي دولة ممثلة بشخص واحد. هذا بالإضافة إلى أن ما يميز هذا المؤتمر بوصفه منظمة هو «تحيّزه» للدول الفقيرة التي تعيش حالات صارخة من الاحتلال، ويحاول قدر المستطاع تقديم الدعم لها. في هذا الإطار ينظم المؤتمر اجتماعاً مصغراً لأعضائه في رام الله في شهر تشرين الأول المقبل تضامناً مع الشعب الفلسطيني وفي محاولة لتقديم الدعم لقطاع الآثار هناك».


بطاقة

Wac: توضيح لدور علم الآثار



المؤتمر العالمي للآثار World) Archaeological Congress) هو منظمة غير حكومية وغير قابلة للربح، وهي المنظمة الوحيدة التي تمثل علماء الآثار في كل أرجاء الأرض.
يروّج المؤتمر العالمي للآثار لفائدة (على الصعيد الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي) الماضي في كلّ الدول، ويشجّع على تطوير علم الآثار، ويعزّز التفاعل الأكاديميّ بين أهل الاختصاص.
انطلقت أهدافه من الشعور بالحاجة إلى العمل على توضيح دور علم الآثار في كتابة التاريخ ووضع الأسس الاجتماعية للشعوب والمحافظة عليه في سياق الأحداث السياسية عالمياً وإدخال العلم في حياة الشعوب اليومية وحثّها عى التفاعل مع آثارها وماضيها بشكل حقيقي غير مسيّس. ومن أهم الافكار في تأسيس الـWAC هو دعم علماء الدول الفقيرة للمشاركة في المؤتمر، والعمل للمحافظة على حضارات وثقافات السكان الأصليين في كلّ القارات ودراستها.
وما يميّز هذه المنظمة عن باقي المنظمات العلمية التي تعنى بأمور الآثار هو تحديدها لهذا العلم الذي يُعنى أولاً «بآثار الأقدمين، أي المواد التي بقيت من حياتهم اليومية والتي يجب دراستها علمياً في كلّ التفاصيل». ولكن، وبحسب مؤسسي هذه المنظمة، فذلك لا يكفي، لأن هناك عدة أنواع من علم الآثار... هناك العلم الذي يتوقف على دراسة القطع، وآخر ملتزم بإمرار هذه المعلومات إلى العامة ومشاركة الشعوب والمجموعات بالاكتشافات التي تحدث والتي تتعلق بمناطقها وأرضها.
ففي كل مؤتمر تطرح نظريات جديدة تحث على مبادئ جديدة في تطبيق علم الآثار، داخل إطار أهل الاختصاص وخارجه. فأعضاء الـWAC مؤمنون بأن علم الآثار لا يتوقف على معرفة التاريخ، بل هو في الحقيقة لإعطاء الأفراد والمجتمعات خلفية تاريخية وهوية حقيقية ترتكز عليها الشعوب والدول. لذا، فأعضاء هذه المنظمة هم عادة من «المناضلين» في تعميم نتائج أبحاثهم على كامل أفراد المجتمع، ويعملون بلا انقطاع على «ابتكار» طرق جديدة لاجتذاب العامة نحو دراساتهم ونتائجها.
وفي هذا الإطار، قرّرت إدارة المؤتمر وجامعة دبلن وضع كلّ المحاضرات التي قدّمت خلال الأيام الخمسة الماضية على شبكة الإنترنت لكي يتسنى لكل شخص قراءتها بانتظار الدراسات والكتب التي ستصدر لاحقاً.
http://www.ucd.ie/wac-6/


العالم العربي

تبقى الدول العربية أقلّ من مشارِكة في المؤتمر العالمي للآثار، ولم يتجاوز عدد المشاركين في العشرة من بين 1800 مشارك أتوا من أقاصي الأرض. ولولا قضية فلسطين، واجتياح العراق وتدمير الآثار في جنوب لبنان خلال حرب تموز، لكادت الدول العربية تكون غائبة تماماً، وكأن وجود الدول العربية عالمياً يتوقف على الحروب التي تشن عليها!
يبدو الأمر غريباً، وخصوصاً أن هذا المؤتمر يعمل على دعم شعوب العالم الثالث، وإن كان ذلك لم ينجح كثيراً، فقد قلّ عدد المشاركين من تلك الدول عن المؤتمرات السابقة. وهذا كان واضحاً في «المعارض» التي صوّرت عمل البعثات في الدول الأوروبية خاصة، لولا معرض متجول عن آثار العراق بعد الاجتياح الأميركي ولوحة عن أضرار حرب تموز على المباني الأثرية في جنوب لبنان.
وتحاول إدارة المؤتمر العالمي للآثار تغيير هذا الواقع وإعطاء الدول الفقيرة إمكان المشاركة عبر انتخابها أفريقياً كنائب رئيس للمنظمة وإعلان مقرّ المؤتمر المقبل سنة 2012 في الأردن على ضفاف البحر الميت. حينها، ستكون الكرة في ملعب الدول العربية أولاً، والشرق أوسطية ثانياً. فإن لم تتحضر للمؤتمر وتدخله من أبوابه الواسعة وتطرح نفسها قوةً فعلية في هذا العالم الأكاديمي، فستكون الخسارة كبيرة، وخصوصاً أن علماء الآثار الإسرائيليين «سيجتاحون» المؤتمر الذي لم يجدوا فيه حتى اليوم «واحة الأمان» التي تقدمها لهم باقي المؤتمرات.
العالم العربي، حيث عاشت وتطورت أقدم حضارات العالم، غير موجود في اللقاءات الدولية إلا بشكل خجول جداً، أو عبر دراسات العلماء الغربيين في تلك الدول، ما يدعو إلى التساؤل: ألا تزال تلك الدول تعتبر نفسها تحت الانتداب، أم أن شعوبها وعلماءها يعتبرون أنفسهم في طور التعلّم، وبالتالي غير قادرين على المشاركة؟
في عام 2012 يعطي العالم الغربي للعرب فرصة لا يجب تفويتها تحت أي شعار.