نقولا ناصيفأكثر من أي وقت مضى، سجّلت الأسابيع المنصرمة، منذ انتخاب الرئيس ميشال سليمان في 25 أيار، وقائع ستكون مرشّحة لأن تصبح سوابق في الحياة السياسية اللبنانية. وأكثر من أي عهد مضى كان قد واجه في بداياته صعوبات تأليف أولى حكوماته التي لم تكن تتأخر أكثر من ثلاثة أسابيع، فأن سليمان يكاد يكون رئيس الجمهورية الوحيد الذي ينقضي من عهده 41 يوماً ــــ حتى الآن فقط ــــ دون أن يمارس أياً من الصلاحيات التي ناطها به الدستور. لم يوقع بعد مرسوماً ويصدره، ولم يرأس اجتماعاً لحكومة لم تتألف، ولم يستطع اتخاذ مبادرة سياسية أو دستورية تصبّ في نطاق صلاحياته التي جمّد نفاذها تناحر الموالاة والمعارضة على تأليف حكومة الوحدة الوطنية. مع ذلك ظلّ الرئيس محور جذب طرفي النزاع اللذين يتقاذفان الشروط من فوق رأس قصر بعبدا.
على أن أبرز ما قد يصبح سوابق وأعرافاً أفضت إليه تجربة الأسابيع المنصرمة بسبب الإصرار على التزام تطبيق اتفاق الدوحة نصاً وروحاً ـــــ وهو الأب الفعلي لكل هذه السوابق ـــــ يكمن في الآتي:
1 ــــ تجريد رئيس الجمهورية والرئيس المكلف تأليف الحكومة الجديدة من قدرتهما على جعل هذا التأليف صلاحيتهما الدستورية الحصرية. ومع أنهما اللذان سيوقعان مراسيم التأليف، ويصدرها رئيس الجمهورية، فإن الحكومة الجديدة لن تكون من صنعهما، بل ستنشأ من توازن قوى سياسي جعل صلاحية رئيسي الجمهورية والحكومة بين يدي الموالاة والمعارضة. يتقدّم التأليف كلما اقترب الطرفان من تفاهمهما، ويتراجع كلما تصلّبا في شروطهما أو انفجرت خلافات داخل صفوفهما. ولا يسع الرئيسين السيطرة على لعبة التأليف هذه أو فرض أمر واقع على الفريقين المعنيين. وهكذا من دون رضاهما معاً على حصتيهما في الحكومة الجديدة، لن يكتب لسليمان والرئيس المكلف فؤاد السنيورة توقيع المراسيم. بل لعلّ المثير في الأمر، بعدما قطع الرئيس المكلف اتصالاته مع المعارضة، أن زعيم الغالبية النائب سعد الحريري قد أمر بمعاودتها، وهو بذلك دلّ على إحدى مرجعيتي التأليف.
2 ــــ مع أن المادة 49 تجعل رئيس الجمهورية وحده الحَكَم بين المؤسسات الدستورية، فإن أياً من الأحكام الدستورية الأخرى لم يقل برئيس للحكومة هو طرف في الصراع السياسي أو ممثل لفريق دون آخر في السلطة الإجرائية. ذلك أن المادة 53، إذ تلزم تكليف الشخصية التي تحصل على العدد الأوفر من أصوات النواب لترؤس الحكومة الجديدة ــــ ويكون هذا الإجراء أقرب إلى انتخابه في البرلمان ــــ لم تقل إن الرئيس المكلف يمثّل سياسياً الغالبية النيابية في مواجهة الفريق الآخر في مجلس النواب، بل لا يعدو الأمر كونه منبثقاً من الأكثرية العددية التي تفضّله على سواه من المرشحين المحتملين، لأن الأحكام التي ترعى تسمية الرئيس المكلف لا ترى، في المقابل، أن رئيس الجمهورية يمثل فريقاً سياسياً آخر في الحكم، ولا هما يتقاسمانه. لذلك رمت تلك التسمية ــــ وهي تنتزع الصلاحية من رئيس الجمهورية ــــ إلى تحقيق أوسع تأييد حول رئيس الحكومة المسؤول أمام مجلس النواب، وكي لا يتفرّد رئيس الجمهورية بتكليف شخصية لا تعبّر عن التوجّهات الوطنية الأوسع في البرلمان التي تغطي عندئذ موافقة طائفة الرئيس المكلف والفئات التمثيلية الأوسع. على أن حكومة 2005، ثم الحكومة الثانية للسنيورة، خرجت على مغزى هذا الدور. انبثقت من انتخابات 2005 حكومة أمسك من خلالها فريق سياسي بأكثرية أعضائها، ووقفت على طرف نقيض من الفريق الآخر الذي احتكم إلى الشارع لتقويضها. لم تسقط الحكومة إلا أنها لم تحكم.
ورغم أن قوى 14 آذار لا تزال تمثّل الغالبية البرلمانية، ونجحت في فرض تكليف السنيورة مجدّداً لرئاسة الحكومة، تبدو عاجزة عن المضي في تأليفها، خلافاً للتجربة السهلة عام 2005، بلا الفريق الآخر، وقد فقدت فعلاً بعد أحداث 7 أيار مقدرتها على استخدام أكثريتها تلك، وجاء اتفاق الدوحة ليسقط الفارق تماماً بين الطرفين، ثم كان كلام الحريري قبل أيام في قصر بعبدا بأن المطلوب ليس حكومة موالاة ومعارضة بل حكومة وحدة وطنية. مع ذلك كُرّست سابقة رئيس الحكومة الطرف، الذي يستطيع خصوصاً أن يختلف مع ثلث وزرائه.
3 ــــ ترسيخ تصنيف الحقائب الوزارية بين سيادية وأساسية وخدماتية وثانوية، الأمر الذي لم تَخْبره حكومة قبل اتفاق الطائف وبعده. كانت الحقيبة الوحيدة التي أثيرت من حولها ضجة لثلاث سنوات بين عامي 1989 و1992 ثم انحسرت تماماً هي المال، لوضع التوقيع الشيعي إلى جانب التوقيعين الماروني والسنّي على المراسيم، لأن وزير المال ــــ وزير الليرة ــــ أكثر زملائه توقيعاً عليها لارتباط الحقائب كلها بالحاجة إلى إذن بالإنفاق. ومن الآن فصاعداً لا تتألف حكومة قبل أن يتفق رئيسا الجمهورية والحكومة سلفاً مع أفرقاء النزاع على وسيلة تقاسمهم الحقائب السيادية الأربع على أساس أنها حقائب الطوائف الأربع الرئيسية، وتقاسمهم الحقائب الأساسية والخدماتية على أساس أنها حقائب تعزيز الشعبية.
4 ــــ لم تعد من الآن فصاعداً أي حكومة تتسم بما ينبغي أن تتصف به، وهو أنها حكومة رئيسي الجمهورية والحكومة اللذين يتعاونان على تأليفها، بل أضحت محكومة بتوازن قوى سياسية تتشكّل منها، وصار النصاب القانوني فيها هو قياس هذا التوازن. المعارضة تحوز الثلث الزائد واحداً في مقابل غالبية تمثّل في البرلمان الأكثرية المطلقة، فتحوز النسبة نفسها داخل السلطة الإجرائية. وبمقدار ما ينطوي هذا التقاسم على تمكين الفريقين من السيطرة على مجلس الوزراء، وأن يشكّل كل منهما، لا رئيس الجمهورية، ضمان نفسه في التوازن السياسي، فإنه يفقد رئيس الجمهورية القدرة على أن يكون الحَكَم النزيه بين طرفين لم يعودا في حاجة إلى الاحتكام للرئيس، صار في يد كل منهما السلاح الأمضى الذي يواجه به الفريق الآخر ويمنعه من الاستئثار بقرار مجلس الوزراء. والمقصود هو التصويت بنصاب الثلثين بل وحتى التئام مجلس الوزراء.