جان عزيزأهمّ ما في اجتماع «اللقاء المسيحي الوطني» أمس، إعلانه اعتبار وثيقته التأسيسية، مجرّد مسودة للنقاش لا أكثر. ذلك أن منطق التلاقي البشري، يفترض الحوار والتفاعل والتثاقف، للوصول إلى «ميثاق». وهو مفهوم يعني ـــــ حتى لغوياً ـــــ أن يكون ثمة ربط «يوثّق» المعتنقين للمتفق عليه، وبالتالي يثقون به كمتَّفق، ويثقون بعضهم ببعض كمتّفقين. وبالتالي، فإن الملاحظات على الورقة المعلنة قد تكون كثيرة. لا بل ستكون كذلك، لكن الأهم أنها يجب أن تكون كثيرة، ومن تلك الملاحظات ما سيتناول شكل «اللقاء». من حضر ومن غاب. من أعطى ومن أخذ. من يضيف ومن يغبّ. ومن الملاحظات أيضاً ما سيتناول أدبيات الورقة المعلنة. عدم ذكر اتفاق الطائف، والاستعاضة عنه بعبارة «احترام الدستور بكل نصوصه ومضامينه». فضلاً عن سيل ممكن من المناظرات اللغوية والمفهومية: مثلاً لماذا ذكر العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وعدم ذكر العهد المماثل الخاص بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية؟ كيف الالتزام بمواثيق جامعة الدول العربية وبينها ميثاق منظمة «اليكسو»؟
لماذا ذكر اللاجئين إلى إسرائيل والمعتقلين في سوريا وإسقاط قضية مفقودي الحرب؟ وغيرها من المسائل التي تبدو شكلية، أو معزوّة إلى بعض عجلة في الإعداد والتحضير.
كما قد تبرز ملاحظات أكثر عمقاً، ولو على بعض فلسفة وتنظير ـــــ بالمعنى البنيوي والبنّاء لمذهب «حب الحكمة» وبلورة النظرية والنظر مثل النقاش بشأن صحة القول إنه «حيث لا قيمة للوجود من دور». وهو ما قد ترفضه مدارس الإنسانوية المعاصرة، وخصوصاً ما يستقي منها الاستلهام المسيحي تحديداً. فالشخص الإنساتي قيمة قائمة بذاتها، لا بدورها. وهي بالتالي واجبة الوجود، بمعزل عن أي قيمة منبثقة منها أو مكتسبة بوجودها.
وقد تطول تلك الملاحظات وتتيه، وتضيع وقتاً محشوراً بين استحقاقي الحكومة والنيابة، لغالبيةٍِ من المشاركين بالأمس ربما. لكن، ولأن «اللقاء» قد يكون تاريخياً، ثمة أساس فكري لا بد من لحظة: ما هي «الهدفية النهائية» للقاء، وللملتقى باسمهم؟ أي ما هي «الغائية الأساسية» للمسيحيين؟
هذا السؤال مثّل طيلة قرون موضع الإبهام الفكري الأكبر، والالتباس المفهومي الأعمق لدى المسيحيين، وتاريخياً، وفي شكل غير متبلور، أو حتى لا واعٍ، كانت ثمة ثلاث صيغ هجينة للإجابة عنه: الصيغة الأولى، حاولت أن تنسج بنية فكرية لجماعة مسيحية في لبنان، ذات بعد لاهوتي. وهي صيغة اعتنقها قليلون، كتبوا عنها وفيها أقلّ. لكنّ أساسها الفكري مستمدّ من الفكرين «اللوففري» الأوروبي، ومن اللاهوت السياسي الكاثوليكي الغربي، الذي انتهى مع المجتمع الفاتيكاني الثاني. قبله، ومن أغوسطينوس والأكويني حتى الباب بيوس العاشر، وخلفَيه الحادي عشر والثاني عشر لماماً، كان فكر لاهوتي يتحدث عن «المسيحية سماء وأرض»، وعن «المسيح الملك»، وعن المقتضيات السياسية والدولتية والمجتمعية للإيمان بالثالوث الأقدس. انتقل هذا الفكر إلى قلة من «المناضلين» المسيحيين في لبنان. لكنه لم يعرف نموذجاً واضحاً. سمير جعجع لامسه في بعض كتاباته الأولى. بعدها أصبح بائداً، تماماً كما في كل الغرب إلى حد كبير.
صيغة ثانية عرفت رواجاً أكبر بين مسيحيين لبنان، حاولت بلورة جماعة مسيحية ذات بعد تاريخي، أي إن «انْوِجَادَ» هؤلاء الناس في هذه المنطقة، واجه دوماًَ تحدي الآخر، والجماعات الأخرى. وفي أدبيات هذه الصيغة أن الكيان اللبناني تبلور تدريجياً وتاريخياً في مواجهة «غزو» الأكثرية لمنطقة الشرق الأوسط، وبروز مسألة الأقليات، التي صارت لاحقاً «المسألة الشرقية». هكذا وجد «الجبل» بعد الإسلام، ووجد «الفعل المجتمعي» في الجبل بعد المماليك. ووجدت الإمارة بعد العثمانيين. أي إن «الجماعة المسيحية» هي رد الفعل على واقع أزمة الآخر في الفكر الإسلامي. وإن «دورها» و «رسالتها» و«حضورها» هو التحدي لذلك الفعل.
ماذا بقي من هذه الصيغة في زمن العولمة والصراعات المذهبية؟ وتذرّر الأفكار الدينية؟ قد لا يكون الكثير، لبناء نظام فكري لجماعة مسيحي.
تبقى صيغة ثالثة، قالت بالجماعة ذات البعد السوسيولوجي، وهي نظرية لها اسناداتها العلمية، منذ ميرسيا إلياد وماكس فيبر، حتى هانتنغتون الشهير. أي إن الفكرة الدينية تبلور لدى الفرد والجماعة سلوكاً قمعياً وثقافة وحضارة وجانبية سوسيولوجية وشخصية قاعدية ومتخيل جماعي وذاكرة مؤلفة... كلها مختلفة عن «الآخر الديني».
فيصير كل منهما «جماعة»، يقتضي لها كيان، بمعزل عن البعد الإيماني، وبعيداً عن السياق التاريخي. كل هذا يبدو ساقطاً اليوم، يبقى الإنسان، وهدفه الخير، ببعدية الخاص والعام، والسبيل إليه عبر يناع الشخص الإنساني وتقدمه وتطوّره نحو القيم الإنسانية الحية الفاعلة والجامعة.
الإنسان والخير، هما ما ينقص في البحث عن الجواب: ماذا يريد المسيحيون؟ وإلامَ يهدف أيّ «لقاء» باسمهم؟
تراها مجرد «فلسفة» في غير مكانها والزمان؟ تراه من عاش أكثر: أرسطو، أو من كان ممثلاً منتخباً أو «مستحقاً» في زمانه ومكانه؟