هدنة مؤقّتة ترسّخها التسوية... وإلّا فعودة المتاعب«هل تستمر المراوحة السياسية؟ أم أن الحكومة ستشهد النور ويعود الوضع إلى التهدئة؟» هو سؤال الذين يديرون العمليات القتالية في طرابلس. الأمور التي تبدو هادئة خارج المدينة وبعيداً عن منطقة باب التبانة وجبل محسن، هي غيرها هناك
فداء عيتاني
بدأت حالة محدودة من التراخي العسكري تسود الأحياء الشعبية في باب التبانة وجبل محسن، وكالعادة في لبنان فإن نبض الحياة لا يلبث أن يسيطر حتى لو كانت القوى المتصارعة تعتبر ما يحصل هدنة مؤقتة.
الهدنة المؤقتة أيضاً هي ما تراه أغلب القوى اللبنانية المتصارعة، في اتفاق الدوحة، بصفته استراحة بين أطراف النزاع في انتظار المراحل المقبلة في صراع المشروعين. ويبقى السؤال هو: هل نحن في مرحلة هدنة شمالاً، أم تتحول التهدئة إلى واقع راسخ؟
كان للأجواء الشمالية أن تبقى في إطار السياسة المحافظة، بين الحريريين والرئيسين عمر كرامي ونجيب ميقاتي، وصولاً إلى الوزير محمد الصفدي وجبهة العمل الإسلامي، وسائر الأطراف، إلا أن ما حصل في بيروت في مرحلة سابقة، يومي 23 و25 كانون الثاني من العام الماضي حمل ملامح مختلفة إلى عاصمة الشمال. ثمة من أبدع صيغة «إذا تعرّضوا لنا في بيروت فسنردّ في طرابلس والشمال»، ويبدو أن البعض أقنع قيادة تيار المستقبل بالأمر، وأشار بالبنان إلى السلفيين في الشمال، وكانت التجربة الأولى الكارثية هي ما جرى في مخيم نهر البارد، إلا أن القوى السلفية الشمالية كانت تقدم عن نفسها صورة مختلفة، وإن كانت مقسّمة، ولا بد من الإشارة إلى الخلافات السلفية الداخلية، وجزء منها انعكاس لصراعات سعودية ـــــ سعودية لا تتوقف عند أسماء كبيرة في بلاد الحجاز، من الأمير نايف، إلى المدير المدبّر مقرن، إلى بندر، وغيرها من الأسماء، إضافة إلى نفوذ قطري وكويتي وإماراتي وسط التيارات السلفية بعامة، والجهادية منها بخاصة.
في تلك المرحلة اشتعلت المواقع المحيطة بجبل محسن، وبدا الجبل في حالة دفاعية صعبة. كانت رسالة الحريريين إلى قيادتهم أن طرابلس ليست الطريق الجديدة، واللعب هنا مكلف، وأن عاصمة الشمال التي أعادت زائرها سعد الدين الحريري في انتخابات عام 2005 زعيماً لأكبر كتلة برلمانية، يمكنها أن تقيم توازن رعب مع المعارضة، وفق معادلة «بيروت مقابل الشمال».
كان هناك دائماً من ينفخ في قربة الموالاة في الشمال وقوى السلفية، وأفواج طرابلس، ومع التأكيد على قدرة هذه القوى وتيار المستقبل على استقطاب عشرات الآلاف من المقاتلين المستعدين للموت في سبيل الحقيقة والعدالة وكرامة الطائفة السنية وحب الحياة». ووضعت الخطط لتجنيد أكثر من 14 ألف شاب في شركات أمنية تابعة لتيار المستقبل، أغلبهم من المناطق العكارية، ووصل قسم من هؤلاء إلى بيروت في إطار الحماية الفردية والمؤسسات التابعة للمستقبل.
إلا أن الحوادث وقعت كما يعرف الجميع في بيروت، والتي وزّع منها المستقبل ما وزذع من بنادق كلاشنيكوف وبضعة مخازن للمقاتل الواحد، ناسياً أن لعبة الحديد والدم هي لعبة مختلفة تماماً عن يوم الانتخابات، وتجميع المناصرين وتوزيع المأكولات وتحريك سيارات الأجرة في الشوارع.
في خطب يوم الجمعة السابق على اشتباكات باب التبانة (في 21 من حزيران) كان عدد كبير من خطباء المنابر في طرابلس يهاجمون الجيش اللبناني، معتبرين أنه «إذا تدخل في معركة باب التبانة وجبل محسن فسيكون منحازاً ضد أهل السنة»، وحينها كانت المعركة لما تبدأ بعد. إلا أن ساعات قليلة فصلت هذا الكلام عن بدء المعارك. أضف أنه تم بثّ عدد من الشائعات (وقد يكون جزء منها صحيحاً) حول استعدادات لقوى سلفية في عدد من المناطق المحيطة بطرابلس وخاصة في المناطق الممتدة من خلف مصفاة آي بي سي النفطية نحو الناحية الخلفية لمخفر التبانة المحاذي لنهر أبو علي، حيث صار يدور كلام عن تحضيرات لآلاف المقاتلين الجهاديين المستعدين لمواجهة الدبابات. وحين بدأت المعارك بعدها بساعات تبين أن هؤلاء أرقام على لوائح الصرف والدفع، وليسوا قوى مقاتلة، وأن القوى الجدية في منطقة النزاع هي تجمّع لأبناء المنطقة من المناصرين لرموز الأحياء والفاعليات المحلية، وأن أغلبهم ليسوا من أنصار الحريري، بل على العكس، فهم من أنصار نجيب ميقاتي وعمر كرامي وغيرهما من القوى الطرابلسية. بل إن حريريين انفصلوا عن التيار لأسباب تافهة، كحصول زعيم محلي على حصة من قذائف البي سبعة تزيد 3 قذائف عن آخر، وبلغت حالة التفكك لتيار المستقبل حد ترك المقاتلين دون ذخائر ودون إمدادات مالية وغذائية. كما إن الوعود السابقة التي أطلقها من سُلّموا الميدان العسكري والأمني بتأمين حشد من بضعة آلاف مقاتل لمصلحة المستقبل ولحماية السنّة لم تنتج سوى بضعة مقاتلين متحركين لا ينتمون إلى باب التبانة، وينصبون حواجزهم على الطرقات الخلفية، وهو ما استدعى، بحسب الشهود، عناصر أخرى للقيام بأدوار قتالية محدودة رفعت من منسوب التوتر في المنطقة.
لم ينفع تضخيم الحجم السلفي في المعركة ولا الظهور والتسريبات الإعلامية للسلفيين ودورهم، ولا الكلام عن دور كبير لكنعان ناجي أو خالد ضاهر في رسم صورة أقوى لتيار المستقبل في الشمال، الذي بات القياديون الميدانيون يوقنون أن من يربح فيه ينتصر في لبنان، وبشكل أدق فإن انتصار المعارضة في الشمال يعني بداية نهاية تيار المستقبل، وأن استراتيجيا المستقبل والقاضية بـ«التوتير دون التفجير» لتجميع السنّة حول قضية ما عدا تلك التي انقضى تاريخ صلاحيتها، فشلت مع التفجير الذي أظهر حجم التيار في الميدان، والذي كشف عن جهل قاتل بأولويات العمل العسكري والنزاعات الأهلية في لبنان.


لاعبون كثر

يقف سعد الحريري في موقع صعب في الشمال، ترده تقارير تثير تفاؤله، ويعتقد بأنه سينتصر انتخابياً هناك كما سبق أن فعل عام 2005، ولكن العديد من القوى سبق أن وقعت في شرك الشمال، ربما أهمها حزب الله الذي اكتشف أن كل ما قام به في طرابلس خلال أعوام لم يكن أكثر من عمود ملح انهار في لحظات عقب حوادث السابع من أيار. إلا أن زعيم المستقبل لا يزال يعتقد بأنه بصرف بعض التعويضات بعد الاشتباكات سيحصد تأييداً، علماً بأن الأضرار الجسيمة لن تسمح للحريري بالتعويض الكامل على الأنصار والمحاسيب، وهناك أكثر من عازف في الشمال على وتر التعويضات المالية، وبعضهم قد يملك إمكانات مالية لا تقلّ عن الحريري نفسه. إضافة إلى أن بعض المحسوبين على المستقبل بدأوا بتكوين قواعد وآليات مستقلة عن التيار.