نقولا ناصيفيمثّل التباين القائم في صفوف أفرقاء قوى 14 آذار من خلال توزّع حصتهم في حكومة الوحدة الوطنية، أحد مظاهر الغموض الذي ظلّ يكتنف علاقة مسيحيي هذا الفريق بشركائهم في هذا التحالف العريض. لم يختلفوا في السنوات الثلاث المنصرمة على العناوين الرئيسية للمواجهة التي ضمنت تراصّهم: التحقيق ثم المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، العداء لسوريا وتعطيل أي قدرة على بعث نفوذها السياسي في لبنان، السعي إلى إحكام القبضة على الحكم بمؤسساته الأكثر فاعلية بما في ذلك اجتذاب الجيش إليهم، التزام الخيارات الدولية وأخصها الأميركية والفرنسية في الموقف من دمشق وممارسة شتى الضغوط عليها وإن اقتضى أن يكون لبنان رأس حربتها، التشهير بحزب الله كتنظيم رهين إيران ونزع الإجماع الوطني عن سلاحه. حفظت هذه العناوين لقوى 14 آذار تماسكها عندما واجهت معارك سياسية كبيرة وصغيرة وكسبتها، وتشبّثت بمواقع السلطة بفضل تمثيلها الغالبية البرلمانية. الوجه الآخر لوحدة الموالاة كان عصبين يشدّانها، هما: رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري ورئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط. اختصر الرجلان كتلتيهما الكبيرتين، وبات أندادهما الظاهرين في التحالف العريض: الرئيس أمين الجميل ورئيس الهيئة التنفيذية للقوات اللبنانية سمير جعجع. في الغالب كان الحريري وجنبلاط يقرّران وحدهما، ويطلعان الجميل وجعجع على القرارات متأخرين. أما الباقون فاستبعدوا في كل الأحوال. كانت تلك شكوى الوزير محمد الصفدي والنائب بطرس حرب في أكثر من مناسبة، وأبرزها ـــــ وأكثرها دقة وبعثاً على الامتعاض ـــــ انقلاب قوى 14 آذار على نفسها عندما قرّرت بعد رفض قاطع تسمية قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً توافقياً.
اليوم يأتي تأليف الحكومة الجديدة امتحاناً قاسياً للأفرقاء المسيحيين في قوى 14 آذار الذين بدوا أنهم دفعوا ـــــ أو سيدفعون أكثر بعد ـــــ ثمن انقلاب توازن القوى في الشارع وفي الحكم، إذ جعل التسوية بين يدي الحريري وجنبلاط من جهة، والفريق الشيعي من جهة أخرى دون سواهم. ولهذا الواقع أسباب شتى منها:
1 ـ أن المعارضة نجحت في نقل المواجهة بينها وبين الموالاة إلى داخل صفوف هذه، عندما حصدت حقائب سيادية وخدماتية أساسية، كانت الموالاة ترحرحت في الحكومة السابقة في توزيعها على أفرقائها أصالة أو وكالة. وبمقدار ما تخلى حزب الله للرئيس ميشال عون عن حصته وآزره في مطالبه وحصر به التمثيل المسيحي المعارض، جرّد الحريري وجنبلاط مسيحيي الموالاة من بعض مقاعدهم التي أملوا في تقاسمها كممثلين حصريين لمسيحيي هذا الفريق.
ولم تقتصر المشكلة على تحديد حصة الحلفاء المسيحيين في التوزير والحقائب، بل انتقلت عدواها إلى الحلفاء المسلمين عندما تشبّث جنبلاط بحقيبة الأشغال العامة والنقل التي يشغلها الصفدي، مما أثار استياء الأخير الذي كان قد تلقى يوم السبت مكالمة من جنبلاط برّر له فيها تمسّكه بالأشغال تعويض انتزاع المعارضة حقيبة الاتصالات منه. وقال الزعيم الدرزي إن إصراره ليس موجهاً ضد الوزير الطرابلسي. لكن الخلاف مع الصفدي ـــــ وليست المرة الأولى بعدما التزم، خلافاً لرفاقه، نصاب الثلثين لانتخاب الرئيس ـــــ يفتح باب أزمة مع الحريري في انتخابات 2009. ولأن الدوائر الانتخابية هي الأقضية، فإن الزعيم البيروتي سيكون في حاجة إلى نظيره الطرابلسي في انتخابات عاصمة الشمال لا العكس، على نحو ما تطلّبته انتخابات 2005، إذ أوجبت الدوائر الموسعة تكبير نطاق التحالفات
الانتخابية.
2 ـ بدت الطريقة التي وُزّعت فيها الحقائب على وزراء الموالاة، ولا سيّما المسيحيون، أقرب ما تكون إلى اختبار علاقة هؤلاء بعضهم ببعض في الانتخابات المقبلة. ذلك أن اعتماد القضاء دائرة انتخابية ـــــ إلى تفكيكه التحالفات الواسعة التي شهدتها الدوائر القوية للموالاة في دوائر بيروت والشمال وجبل لبنان الجنوبي ـــــ سترغم زعماء هؤلاء على أن ينصرف كل منهم إلى دائرته الصغيرة ويعالج انتخاباتها وفق تقديره الحجم الذي يمثله معارضوه فيها، تالياً ابتكار أنماط جديدة من الشعارات الشعبية والاجتذاب والتحالفات بعيدة عن تلك التي استقطبت الأصوات في انتخابات 2005، حينما أقام الشهداء في أوراق الناخبين. هذا الواقع يحمل الزعيمين الشوفي والبيروتي على إعادة النظر في حسابات الأعوام الثلاثة المنصرمة وتحالفاتها غير المجدية في معظمها. وقد يكون بعض إشاراتها ما يُنسب إلى جنبلاط من انتقادات في جلسات خاصة يوجهها إلى النائب جورج عدوان، موحياً أنه لن يكون ـــــ وبالتأكيد التنظيم الذي ينتمي إليه ـــــ في لائحة 2009 في الشوف. بعض ما يقوله جنبلاط متهكّماً، نقلاً عن رواة وثيقي الصلة: أليس عدوان هذا هو أول مَن ذهب إلى إسرائيل؟ الأمر نفسه لدى الحريري حيال المقعد الماروني في بيروت بعدما بدا تأييده السابق له التزاماً أخلاقياً ورثه من والده الراحل ليس إلا. مغزى ذلك أن حلفاء 2005 قد لا يكونون إياهم حلفاء 2009.
3 ـ تركت حوادث 7 أيار نتائج موجعة على قوى 14 آذار أظهرها اقتسام طرفي النزاع لحقائب حكومة الوحدة الوطنية. لكنها أبرزت كذلك تراجع جنبلاط عن خط المواجهة مع حزب الله، سواء في مرحلة انكفائه في الأسابيع التالية لتلك الحوادث أو إعادة صوغه مواقف ترغب في تسوية الحدّ الأدنى مع الحزب. لقد كان أول مَن التقط فحوى ما حصل، وأول مَن تدارك عدم المكابرة خلافاً لما عبّر عنه بعض حلفائه المسيحيين. بل في واقع الأمر اقترن هذا الموقف بالوضع الذي أضحت عليه سوريا في لبنان والمنطقة.
ويتقاطع موقف جنبلاط مع ما تقوله دمشق لزوارها من أنها تعتقد أن ما يقرّره حزب الله والمعارضة بعد حوادث 7 أيار يشكل مكسباً رئيسياً لها من غير أن تضطر إلى التدخل في الشؤون اللبنانية مباشرة. وتقول دمشق أيضاً ـــــ وعاد بهذا الكلام بعضهم في الساعات الأخيرة ـــــ إن الأسلوب الذي يسلكه الحزب أثبت جدواه، ممّا يوجه اهتمامها إلى ملفات إقليمية ودولية أوسع نطاقاً من تفاصيل المشكلات اللبنانية. فالرئيس بشار الأسد رئيس القمة العربية، وهو على شك زيارة باريس ولقاء رئيسها نيكولا ساركوزي على هامش قمة الاتحاد من أجل المتوسط لفتح صفحة جديدة في علاقات البلدين لا تكون أسيرة الوضع اللبناني، وكذلك على أبواب انفتاح أوروبي أخرج سوريا من عزلة أعوامها
الماضية.