جان عزيزللمرة الثانية خلال ثمانية عشر عاماً، تتكرّر مأساة بعض المسيحيين، في مواجهة بعضهم للبعض الآخر. وللتكرار مرة ثانية عنوان واحد واضح: لماذا يلمّح سمير جعجع إلى إمكان بقائه خارج الحكومة؟ المرة الأولى كانت بين عامي 1989 و1990. والمرة الثانية بين عامي 2005 و2008. في المرة الأولى تضافرت ظروف سياسية وعسكرية وشعبية، أدت إلى تظهير صورة موازينية معينة في المناطق المسيحية المسماة «المناطق الشرقية». وكان مفادها أن أكثرية ما بدت كأنها مع ميشال عون، في مقابل أقلية ما ظهرت كأنها تؤيد خصومه.
لم يكن لدى المسيحيين وسيلة ديموقراطية رقمية واضحة لقياس تلك الصورة، فرفضتها الأقلية، ولم تقبل بقوانين «الديموقراطية المبسطة» داخل الجماعة الواحدة. وتآلفت قوى تلك الأقلية، من أحزاب وشخصيات ومراجع، للوقوف في وجه الأكثرية، التي اتهم عون بأنه يدعي تمثيلها.
وانطلق المسار الصدامي بين الطرفين. ذهبت الأقلية إلى الطائف، فوقع الطائف بين يدي دمشق. قام تحالف الأقلية مع الاثنين، وبدا أن الملاذ الوحيد لهذه هو الاستقواء بخارج ما، أي خارج ما، لمواجهة أكثرية جماعتها.
في تلك المرحلة، كانت وعود الأقلية لذاتها أكبر بكثير من قوتها وتمثيلها وشرعيتها. وكانت محاباة الخارج لتلك الأقلية، توحي كأن الوعود صحيحة ودقيقة. ورواية محسن دلول المتلفزة، عن إقناعه سمير جعجع بالسير بالتعديلات الدستورية، و«بيعها إلى حافظ الأسد» شخصياً. خير دليل...
أقرت التعديلات «الطائفية» في 20 آب 1990. صار رئيس الجمهورية على قياس إلياس الهراوي صلاحيات ودستوراً، وقع قانون التعديلات بعد شهر، أسقط ميشال عون عسكرياً بعد ثلاثة أسابيع، فاستقالت حكومة سليم الحص، وجاء عمر كرامي رئيساً، واستحقت وعود الأقلية المسيحية.
في الأيام الأخيرة من عام 1990، تبين أن البعض استعمل لمجرّد الحرب مع عون. بعده انتهت «صلاحية الاستعمال». طالب جعجع بمساواته بنبيه بري ووليد جنبلاط. وقيل إنه طالب باحتكار التمثيل المسيحي الآتي من «الشرقية». بعد أيام من التفاوض، جاء الجواب الحاسم: مقعدان وزاريان فقط، أحدهما وزير دولة، والآخر وزير لشؤون البيئة. وطرح اسما نادر سكر وتوفيق الهندي لهما. استبدل جعجع اسم سكر باسم روجيه ديب، قبل أن يرفض العرض. فأعلنت مراسيم التأليف من دون موافقته، ليعتكف ثلاثة أشهر، قبل أن يستلحق نفسه بمقعد وزاري يتيم لديب، ما لبث أن خرج منه بالاستقالة بعد أشهر.
يومها حاول جعجع بلورة مفهوم الثلث المعطل، عبر جمع عشرة وزراء في منزل الراحل رشيد الخازن. فشلت المحاولة، وثبتت المعادلة: ذبحت يوم ذبح أخي الثور الأبيض، ولو من دون اعتراف صريح.
بعد خمسة عشر عاماً، تكرر المشهد نفسه والسياق نفسه. سنة 2005 تضافرت ظروف أخرى، سياسية وعسكرية وأمنية وشعبية، نتجت منها صورة الموازين الآتية: أكثرية مسيحية مع ميشال عون، في مقابل أقلية مع خصومه من المسيحيين، سياسيين وأحزاباً ومراجع. ومع أن الفارق بين الحجمين كان مستنداً هذه المرة إلى مقياس رقمي واضح، هو صناديق الاقتراع، رفض أهل الأقلية النتيجة. وكما قبل عقد ونصف، لجأوا إلى «خارج» جماعتهم، للاستقواء على أكثريتها. استقبلتهم قريطم، ومالأتهم، وحابتهم ولاطفتهم. وقيل إن الوعود القريطمية أغدقت عليهم طوال ثلاثة أعوام، حتى أسقط ميشال عون في معركة الرئاسة. وبدأ البحث في التشكيلة الحكومية، والتباحث في حصص «الحلفاء» وإيفاء الوعود. فجأة وجد سمير جعجع نفسه مرة ثانية مضطراً إلى التهويل على فريقه بالبقاء خارج الحكومة.
ماذا يعني هذا الموقف؟ ما هي آفاقه؟
أحد سياسيي الموالاة يكشف أن ما لم يدركه مسيحيو 14 آذار، هو أن مصلحة قريطم تبدلت جذرياً بعد انتخابات الرئاسة. فحاجتها إلى مسيحييها لإسقاط عون انتهت في 25 أيار الماضي. بعد هذا التاريخ صارت مصلحة قريطم في بعبدا، لا في معراب، ولا في بكفيا ولا في أي موقع مسيحي آخر. ثم في الحساب الانتخابي، تدرك قريطم أن رهانها اليوم على ضرب الزعامة المسيحية، صار في العمل على ضرب الرابية ببعبدا، لا بأي موقع آخر.
وفي التفصيل، يقول السياسي الموالي نفسه: خذوا خريطة الدوائر المسيحية وشرّحوها، تجدوا أن الحقيقة المرة باتت كالآتي: للحصول على مقاعد نيابية في عكار حيث أرثوذكسيان وماروني، وفي طرابلس حيث ماروني وأرثوذكسي، وحتى في الكورة حيث المعركة مجهولة النتائج، وفي بيروت حيث ثلاثة مقاعد مسيحية يحددها الحريري.
تبقى دوائر جبيل وكسروان والمتن؟ هناك الرهان على ميشال سليمان ــــ حسب حسابات قريطم ـــــ لا على مسيحيي 14 آذار، الذين أصبحوا بلا دور ولا وظيفة ولا جدوى.
يقول ماركس إن التاريخ حين يتكرر يكون في المرة الأولى مأساة، وفي الثانية ملهاة. أما ريمون آرون فيجزم بأن التاريخ لا يتكرر، إلا لدى الذين لا يفهمونه.