strong>لا يكاد يمرّ يوم من دون أن يسمع اللبنانيون عن قضية «شيك من دون رصيد»، تورّط بها أحد معارفهم. سبب «الورطة» لم يعد تهرّب محرّر الشيك من تسديد قيمته، بل الرضوخ تحت ضغط الحاجة وتردّي الوضع الاقتصادي إلى سلطة مرابين يتقنون الاستفادة من الظروف السيئة والسير في دهاليز القوانين
نبيل المقدم
في يوم من أيام شباط القارسة، تلقى وجيه على هاتفه الخلوي مكالمة عرّف فيها المتصل عن نفسه وعن رتبته، طالباً منه الحضور في اليوم التالي إلى المخفر المجاور للقرية التي يقطنها، لأن هناك شكوى بحقه والتهمة «شيك من دون مؤونة». لم يكن وجيه بحاجة للاستفسار أكثر، أقفل الخط شاكراً المتصل واعداً بالحضور في اليوم التالي.
يومها، يقول وجيه «أحسست بعمق الهوة التي أوقعني فيها هذا الاتصال، وبأني بتّ في مواجهة خاسرة تنتظر كل من يتخلّف عن الدفع للمرابين».
هو لم يلجأ إلى المرابين إلا بعد أن ضاقت به السبل: «كنت مضطراً لاستدانة مبلغ 2500 دولار أميركي لتسديد الأقساط المتأخرة على ولديّ بعد أن عادا من المدرسة وفي جيب كل منهما ورقة مذيّلة بتوقيع المدير، كتب عليها: نظراً لعدم تسديد الأقساط المتأخرة، نجد أنفسنا مضطرين إلى إيقاف أولادكم عن الدراسة لحين التسديد». لم تنجح كل توسلات وجيه وزوجته في ثني المدير عن قراره «ولم يكن بإمكاني الاستدانة من المصارف، فأنا أصلاً مديون لأحدها بمبلغ من المال افتتحت به مؤسستي التجارية بعد أن عدت من إحدى الدول الأفريقية معدماً، تاركاً جنى العمر عرضة للنهب بسبب الهجمات التي شُنّت على الجالية اللبنانية هناك». كما لم يلجأ إلى الأقرباء والأصدقاء «لأن أوضاعهم على قدّ الحال». لم يبق أمامه إلا التوّجه إلى أحد المرابين المعروفين في المنطقة. «حرّرت له شيكاً بمبلغ أربعة آلاف دولار أميركي، هو عبارة أصل المبلغ الذي استدنته زائد فائدة شهرية قدرها عشرة في المئة لمدة ستة أشهر».
الظروف عاكست وجيه. تدهور الأوضاع الاقتصادية انعكس على القدرة الشرائية للزبائن «ولم أستطع تسديد سوى ثلاثة أقساط شهرية، وطبعاً من دون أخذ إيصالات، لأن عدم إعطاء الإيصالات هو من الأمور الأساسية عند المرابين، لأن ذلك يفقد الشيك قيمته الجزائية ويحوله إلى سند دين تجارياً». مع نهاية الأشهر الستة «طلبت منه مهلة إضافية لمدة ستة أشهر أخرى، فطلب مني تغيير الشيك وتحرير شيك آخر بقيمة 5440 دولاراً أميركياً «لم يكن الحال أفضل في نهاية المهلة الثانية، ولم يوافق المرابي على تمديد المهلة وأعطاني مهلة أسبوع لتدبير المبلغ».
في المخفر، لم يستطع وجيه أن يثبت أنه دفع جزءاً من المبلغ، ولم تنفع كل التوسلات والعروضات التي قدّمها لتقسيطه. كلها اصطدمت بجدار الرفض «حتى طلب إعطائي مهلة أسبوع لبيع قسم من أثاث منزلي لم يوافق عليه محامي الموكل، مصرّاً على الدفع الفوري لكامل المبلغ». اقتيد وجيه إلى سجن رومية بعد أن صدر قرار بتوقيفه، حيث أمضى شهراً وعشرة أيام ذاق خلالها كل أنواع «الذل والهوان، إضافة إلى حالة قلق مرعبة على عائلتي التي لا معيل لها غيري». خلال فترة سجنه «استطاعت زوجتي تدبير قسم من المبلغ بعد أن باعت قسماً من أثاث المنزل، وتوسط لي أحد النافذين في المنطقة عند المرابي الذي عاد ووافق على تقسيط المبلغ الباقي الذي سدّدته بطلوع الروح كما يقولون، لأنه اشترط للموافقة على التقسيط إضافة فوائد تأخير».
لا جديد في قصة فادي سوى أنه استطاع تدبير أموره قبل أن يصل إلى «بيت خالته»، المصطلح المتعارف عليه لكلمة سجن. يروي ما أوصله إلى المرابي «رفض الطبيب إجراء عملية جراحية دقيقة لوالدي في الدماغ قبل أن يقبض سلفاً ستة آلاف دولار أميركي. لم أستطع تدبير المبلغ إلا من خلال «كونتوار» مالي يسلّف بفائدة باهظة والضمانة المطلوبة شيك بقيمة المبلغ الأساسي زائد الفوائد الشهرية». هكذا وافق فادي على شروط صعبة «كان علينا أن نسدّد خلال 4 أشهر مبلغ 8400 دولار أميركي. لم نفكر وقتها بكيفية التسديد والنتائج المترتبة على ذلك، بقدر ما فكرنا بإنقاذ حياة والدي. تعاونت أنا وشقيقي على تسديد الفائدة الشهرية، وعندما وصلنا إلى تسديد المبلغ الأساسي وجدنا أنفسنا عاجزين عن التسديد. ولم يوافق المرابي على تمديد المهلة. اضطررنا إلى تصفية قسم من المحل الذي يملكه شقيقي لبيع أجهزة الكمبيوتر وسدّدنا المبلغ المطلوب، حتى استطعنا الإفلات من المصير الأسود الذي كان يطرق أبوابنا».

من ضحية إلى... جلاد!

حالة صلاح، الذي يملك صالة للألعاب الرياضية، تختلف. راقت له مهنة المراباة بعد أن عاش فترة ضحية لها يوم اضطر للاستدانة لإكمال تجهيزات ناديه، فلمس ما توفّره من أرباح. «في موعد الاستحقاق كان المرابي يزورني باكراً وينتظرني عند باب المنزل، وإذا تأخرت في السداد كان ينهال عليّ بالسباب والشتائم مقرونة بالتهديد بتقديم الشيك إلى النيابة العامة». لكي يتخلّص منه «عرضت عليه تأمين زبائن له مقابل حسم الفائدة الشهرية أو قسم منها، وهكذا استطعت التخلّص من عبء الفائدة الشهرية». مع تقدّم العمل في النادي، سدّد كل المبالغ المتوجبه عليه وبدأ مهنة المراباة «زبائني هم من رواد النادي، ومعظمهم من رجال الأعمال الذين يحتاجون لسيولة دائمة وسريعة».
يتقاضى صلاح فائدة قدرها 150 دولاراً شهرياً على كل ألف دولار، وإذا لمس أن الزبون متلهف إلى المال بأي وسيلة وبأي ثمن، فلا بأس من زيادة الفائدة الشهرية إلى 200 دولار على كل ألف. وعند التخلّف عن الدفع كيف يتصرف؟ يجيب: «عندها يصبح شغل المحامي الذي يتقاضى مني راتباً شهرياً مقابل ملاحقة المتخلفين، وغالباً ما يتمّ الدفع في المخفر أو بعد أن يقضي المتخلّف بضعة أيام أو أشهر وراء القضبان، عندها تتحرك عائلتة وأقاربه لتدبير المبلغ بأي وسيلة، حتى ولو كانت الاستدانة من مراب آخر».
بدوره، لا يرى طوني الذي يملك محلاً للصرافة في بيروت أنّه يقوم بعمل غير مشروع وغير قانوني عندما يديّن بالفائدة الباهظة. «أنا لم أجبر أحداً على الاستدانة من عندي، الناس تأتي قائلة خذ الضمانة التي تشاء مقابل تأمين الفلوس، والضمانة لا تكون بالضرورة شيكاً، فهي يمكن أن تكون رهن منزل أو سيارة أو ذهب». وهل عرضهم لهذه الضمانات هو حجة لاستغلال حاجتهم؟ يجيب طوني «يللي مش عاجبو ما يجي، أنا أريد أن أربح». ولأنه يريد الربح فهو لا يجد حرجاً في إخبارك أنه استوفى من ابن عمه ديناً له يبلغ ثلاثة آلاف دولار بأن باع له سيارته.

بين المصرف والمرابي

يعزو المدير في مصرف بيبلوس مروان حريق انتشار هذه الظاهرة بشكل كثيف في لبنان إلى سوء الأوضاع الاقتصادية التي أدّت إلى نقص في السيولة عند الناس وحاجتهم أحيانا إلى مبالغ سريعة لتأمين حاجات طارئة لا تنتظر. ومن المعروف أن الحصول على قروض من المصارف خاضع لأنظمة وقوانين معينة، وعلى المتقدّم بطلب القرض أن يقدم مستندات معينة قبل حصوله على الموافقة، ويمكن أن يرفض الطلب. فالمصرف يدقق في تاريخ الشخص المالي، إضافة إلى أن المبلغ الذي يطلبه المتقدم بطلب القرض خاضع دائماً لمدخوله، لأن المصرف يهمه قبل أي شيء التأكد من قدرة الشخص على السداد المنتظم للأقساطعند المرابي تختلف الأمور، فكل هذه الشروط غير مطلوبة. المرابي لا يهمه مدخولك الشخصي ولا إذا كنت مستديناً من مكان آخر، ولا يطلب منك مستندات كالتي يطلبها البنك، يكفي أن تقدّم له شيكاً بالمبلغ أو رهناً لعقار أو ذهب أو ما شابه كي تحصل على المبلغ، ولكن طبعا بفوائد فاحشة. ويخشى مروان من أن استمرار تردّي الأوضاع الاقتصادية سيؤدي إلى تفاقم هذه الظاهرة، حيث كلما تصاعدت الحاجة ازداد المرابون جشعاً وزادوا من فوائدهم التي تسببت بخراب بيوت عائلات كثيرة.


القانون واضح... ودهاليزه أيضاً

نصّ القانون الخاص بجرم المراباة تاريخ 29\6\1939 على اعتبار دين المراباة هو «كلّ قرض مالي عقد لغايات غير تجارية واشترطت فيه فائدة تزيد عن الـ9 بالمئة، سواء كان ذلك بصورة ظاهرة أو مستترة، مع مراعاة الأحكام القانونية التي تحدّد معدل الفائدة في الرهونات العقارية».
وجاء في المادة 661 من قانون العقوبات اللبناني ما يلي: كل عقد قرض مالي عقد لغاية غير تجارية يفرض على المستقرض فائدة إجمالية بصورة ظاهرة أو مستترة تزيد عن 12 بالمئة سنوياً يؤلف قرض ربا».
ونصت المادة 662 من قانون العقوبات اللبناني على ما يلي: كل من رابى شخصاً لاستغلال ضيق ذات يده عوقب بغرامة يمكن أن تصل إلى نصف المبلغ المقترض أو بالحبس لمدة لا يمكن أن تزيد عن السنة أو بإحدى هاتين العقوبتين». إذاً القانون واضح في هذا المجال، يقول المحامي بالاستئناف سلام عبد الصمد «لكن المرابين الممتهنين لهذه الحرفة يستعملون وسائل ظاهرها قانوني لتغطية عملهم غير القانوني وغير الأخلاقي، كأن يفرضوا على المقترض تحرير شيك بقيمة المبلغ المقترض، مضافة إليه الفائدة الربوية، وأن يكون الشيك بالتاريخ الذي أعطي به المبلغ، معتقدين أنهم بذلك يخفون السبب الحقيقي الذي من أجله أقرَضوا المال». وباختلاف الضمانة تختلف الشروط «مثلاً إذا كانت الضمانة عقارية فهم يطلبون الحصول على عقد تأمين عقاري، وبذلك لا يستطيع المستقرض التصرف بالعقار دون مراجعة المرابي».
وعن الوسائل التي يمكن أن يواجه بها الضحية المرابين، ينصح عبد الصمد كل الذين يقعون ضحية المرابين بأن «يصرّوا أمام القضاء أو الضابطة العدلية على المنازعة القانونية، سواء بالشيك أو بعقد الرهن، إثباتاً لحصول هذه التصرفات غير القانونية التي حصلت تحت وطأة الحاجة المادية أو الإكراه المعنوي». كما ينصح المستقرضين بأن يحتفظوا بكل ما يثبت حاجتهم لهذا الدين، ولكي يكون التحقيق سليماً وفي محله «يجب أن يجريه أصحاب خبرة في هذه الأمور، وبحضور المحامي».