البحث عن معلومات عن الطرق الأفضل للسير من دون «تعضيل»، تدريبات على السير لمسافات طويلة طالت عاماً كاملاً، التحاور حول الطرق الفضلى لتجنب الاستفزازات إن وجدت... وها قد أصبح مسير الربيع لاتحاد الشباب الديمقراطي اللبناني واقعاً، وتحوّل شعار «الوطن كلّو إلنا كلنا» إلى التطبيق
رشا أبو زكي

«مسيرة الربيع ضرب جنون». عبارة رددها العديد من أصدقاء "اتحاد الشباب الديمقراطي اللبناني"، وحتى بعض الاتحاديين اللذين اعتبروا أن قطع مسافة 10452 كيلومتر مربع سيراً على الأقدام مغامرة غير ضرورية،وخصوصاً أن الاحتقان الطائفي والمذهبي لا يزال على أوجه بعد الاشتباكات الأهلية التي لفّت غالبية المناطق اللبنانية مؤخراً. إلا أن الـ«خائفون على وطن» لم يقتنعوا بالنصائح، فكانت إجاباتهم دائماً تلوك شعار المسير: يجب أن نسعى ولو بمحاولة لـ «إلغاء جميع الحواجز الطائفية والمذهبية بين المناطق». الحواجز هنا ليست بالضرورة مادية على الرغم من تواجدها، بل الأهم نفسية فهي تجعل ذهاب سكان الشوف الى الجنوب مثلاً «انتقالاً مرعباً» من منطقة طائفية الى أخرى، أو سير ابن الجنوب في مناطق الشمال «تمهيداً للمصائب» وذلك وفق اعتقاد أبناء المناطق والبلدات المسيّجة طائفياً ومذهبياً وكما تؤكد بعض وسائل الاعلام. من هنا كان شعار المسير «الوطن كلّو إلنا كلنا».

السيارة وحيدة

من عاليه كانت نقطة الانطلاق، حيث منزل الاتحادي ربيع منذر الذي قضى منذ سنتين في حادث عمل بعد أن كان يشحذ همم رفاقه للقيام بمسير مماثل. لم يكن ربيع يريد أن يطلق اسمه على المسير، ولكن رفاقه العشرة لم يجدوا بديلاً لكي يستطيعوا مناداته خلال المسير الذي كان يحلم بتنفيذه. جاب الاتحاديون بلدات الشوف وصولاً إلى نقطة انطلاق المرحلة الثانية من المسير والتي تفرض اختراق المناطق الجنوبية بدءاً من صيدا. المرحلة الأولى لم تطل أكثر من ثلاثة أيام، فكان التوقيت مطابقاً للدراسة التي نفذها الاتحاديون عن الفترة الزمنية التي تحكم إنهاء السير في كل محافظة، ومع المشاركين تسير سيارة وضعت فيها «عدة العمل» للمشاركين: ثياب، أحذية، أكياس النوم، مياه... وهذه السيارة أصبحت عائقاً، إذ يقول الاتحادي علي عماشة أنه حتى الآن قطع الاتحاديون 140 كيلومتراً، رافضاً الافصاح عن عدد الكيلومترات المتبقية «للحفاظ على معنويات المشاركين»، فعلي يؤكد أن المعنويات مرتفعة جداً وهذا أساسي لاستكمال المسير، وسببها اقتناع المشاركين يوماً بعد يوم بحاجة المواطنين إلى الرسالة التي يوصلونها بنبذ الطائفية والحدّ من التشرذم المذهبي، فكانت النتيجة ان المشاركين، رغم التعب الذي يغلبهم أحياناً، يرفضون قيادة السيارة ويصرّون على عدم قطع متر واحد إلا على الأقدام!
وان كان ألم الأقدام حالة سائدة بين المشاركين، إلا أن ما هو سائد أيضاً أفكار تراود العديد من الاتحاديين بتمزيق كلّ الأوراق الثبوتية التي تشير الى انتمائهم الى منطقة معينة. الاتحادي محمد زرقط يشعر بأنه يحب لبنان أكثر وأن جميع اللبنانيين أصبحوا أهله إلى أيّ منطقة انتموا، «أنا لم أعد ابن الجنوب، فحتى الآن أضيفت الى بطاقتي التعريفية أنني ابن الشوف كذلك، وبعد ان أنهي المسير سأبدأ بالمطالبة بأن يزيلوا عن هويتي اسم المنطقة التي ولدت بها، فانا ابن لبنان كلّه».
أما الاتحادي حسن ورداني فقد أصيب بصدمة حين قال مختار بلدة روم «أهلاً بكم في الجنوب». فبعد السير في أكثر من 20 بلدة شوفية، زالت فكرة الحدود المحافظاتية من رأسه، ولم يستطع الاستيعاب للوهلة الأولى أنه أنهى السير في محافظة كاملة وانتقل الى أخرى، فطريقة التضامن بين جميع البلدات كانت واحدة وطريقة العيش واحدة، ويقول «أتفاجأ حين أسمع أن هكذا أناس طيبين يقومون بصراعات طائفية فيما بينهم». ويتابع «لقد دخلت عملياً إلى الوطن بعد أن تطورت فكرياً وأصبحت يسارياً، فالمسير كان تطبيقاً لنظرية الوحدة الوطنية الفعلية التي أؤمن بها».

إلغاء الطائفية حق لا حلمفقد جمعت القهوة مثلاً الشباب المشاركون في المسير بأهالي مئات المنازل في الشوف، والتشجيع والمساندة التي لقوها من أهالي البلدات دفعت المشاركين الى التشبث أكثر باستكمال المسير حتى ولو ورمت الأقدام، وطبعت حروق الشمس أجساده. تقول الاتحادية ريان مروة أن «السباب كان يرافقنا في كل بلدة ندخل اليها، والشتائم هنا ليست موجهة الينا بالطبع، وإنّما الى الزعماء جميعهم، ولو أحصينا الاشخاص اللذين قالوا «فليذهبوا ويريحوننا» لكان عددهم يوازي الـ 10452 أي بمساحة الوطن كله. وترفض ريان اعتبار الغاء الطائفية حلماً، وتؤكد ان هذا المطلب حق ولا يدخل في إطار الطوباوية او الخيال. وأكثر حادثة أثّرت بريّان خلال المسير هو أحد عناصر قوى الأمن «الذي استوقفنا خلال المسير وتكلم بوجع وألم ونصحنا أن نذهب الى بيوتنا لأن العديد حاول سابقاً تغيير الواقع الطائفي في لبنان ولم يفلحوا، واعتبر أن الطوائف لا تستأهل أوجاع أقدامنا».
ملامح وجه هذا الشخص ارتسمت في ذاكرة ريان ما شجعها على متابعة السير من دون استراحة، «إذ يوجد الكثيرون من المواطنين اللذين ينتظرون تحركات توحيدية، مثل المسير الذي ينظمه الاتحاد، وشعرت أنني لو أحدثت فارقاً قليلاً في الذهنية الطائفية والمذهبية القائمة، فإن ملامح هذا الدركي ستعود الى طبيعتها». كما شعر زرقط أثناء تنقله بين البلدات بأن «أفكاري التي أحملها في هذا المسير أصبحت أقل ثقلاً، إذ ان التجاوب مع إلغاء الطائفية ونبذ التقسيمات المذهبية والطوائفية كان لافتاً».

مزاج حسب التوقيت المحلي!

«حان وقت التعصيب» تقول مزهر مبتسمة، فخلال فترة معينة من النهار يصبح «مزاج» المشاركين في المسير معقداً. ويلفت ورداني ان الحالة النفسية للمشاركين تختلف بحسب التوقيت المحلي، فصباحاً تكون رائعة ويكون الاتحاديون نشطين، ومع اقتراب فترة بعد الظهر يرتفع التوتر بين الشباب مع ارتفاع درجات الحرارة، ليصبح في أوجه عندما «يضرب الجوع»، إلا أن هذه الحالة تزول مع أول «لقمة» نضعها في أفواهنا وعند كل فترة استراحة، أما الفترة التي ترتسم فيها الابتسامات على وجوه المشاركين فتكون مع اقتراب الوصول الى نقطة الاستراحة الطويلة التي يعقبها النوم.
ومن المزاج إلى الصدمات، فمزهر مثلاً تلقت صدمات ايجابية وسلبية في المرحلة الأولى من المسير، وتختصر الصدمة الأولى الايجابية بأنها كانت تتوقع أن يتخلل المسير بعض الإشكالات والاستفزازت، إلا أن طيبة سكان أهالي الشوف وتأهيلهم بالمشاركين هزم توقعاتها. أما الصدمة السلبية فكانت ملاحظتها هجرة معظم شبان المناطق الشوفية التي كانت تعتمد سابقاً على الزراعة. "لم يبق إلا الموظفين إضافة الى استمرار معاناة بعض المناطق من التهجير القسري بفعل الحرب الأهلية".


«عنداريات» ومخاتير

لم يسبق أن قامت منظمة شبابية برسم خريطة لبنان الواحد سيراً على الأقدام، ولكن السلوكيات «العنداريّة» أو «العنداريات» أصبحت حالة عامة في الاتحاد. وتعود تسمية هذه السلوكيات الى أمين سر اتحاد الشباب الديمقراطي عربي العنداري فائق الحيوية، والذي يحاول أن يؤسس لتحركات نوعية وهادفة من الممكن أن تنتج تغييراً ما في نفوس اللبنانيين في سبيل تحقيق «لبنان العلماني». وقد قطع الاتحاديون حتى الآن عدداُ من المناطق منها : عاليه، عين السيدة، دمكين، سوق الغرب، كيفون، بيصور قبرشمون، بشتفين، كفرفؤد، دير القمر، بيت الدين، بعقلين، عينبال، غريفة، مزرعة الشوف، الكحلونية، المختارة، عين قني، باتر، جزين، روم، صيدا، الغازية، الزهراني، العدوسية، بيسارية، الصرفند، عدلون، انصارية، على أن يستكملوا مسيرهم خلال الأيام المقبلة في عدد كبير من المناطق الجنوبية ويعلنوا انتهاء المرحلة الثانية من المسير العابر للمتاريس النفسية الطائفية والمذهبية. ولكي يكون في يد الاتحاد وثيقة رسمية، طلب الاتحاديون من مخاتير البلدات التي مرّوا بها التوقيع على عريضة تحت عنوان "نداء من أجل الوطن"، وقد تجاوب مع هذا النداء 35 مختاراً حتى يوم أمس، باستثناء مختار بيت الدين الذي رفض التوقيع على العريضة، وكذلك مختار بلدة عينبال الذي صودفت وفاته قبل وصول المشاركين الى البلدة. أما نص العريضة فهو التالي:
"نحن الموقعون ادناه، مواطنون من لبنان، باسم من نمثل في عائلاتنا وبلداتنا ومدننا، نناشد المعنيين كافة، هيئات واشخاص، مجموعات وافراد، مسؤولين ومواطنين، ان يدركوا ان الوطن كل واحد لا يمكن تقسيمه، وهو لجميع ابنائه مهما تناقضت خياراتهم السياسية، واختلفت معتقداتهم الدينية. إن اسباب ازمتنا هي تنامي الانتماءات ما دون الوطنية على حساب الانتماء للوطن، لذلك نعلن اننا ابناء شعب واحد متمسك بأرض واحدة نرفض اقامة حواجز طائفية ومناطقية واقعية كانت أو نفسية بيننا كلبنانيين".