جان عزيزلم يكن ثمة دفٌّ بين وليد جنبلاط وسمير جعجع، ليظنّ البعض أنه «انفخت» في الأيام الأخيرة، على قرع طبول الأزمة الحكومية. ذلك أن من يعرف العلاقة وتاريخها بين الرجلين، لا يسميها بغير التراجيدية، أو حتى السوريالية. لقاؤهما الأول كان من بعيد. وتحديداً من خلف المتاريس في حرب الجبل، التي تستعيد بعد أسابيع قليلة ذكرى ربع قرن على وقوعها. يومها كان جعجع آتياً من ثقافة كتابات لأركان فريقه، تشير إلى أن جوهر المشكلة في الجبل، يستعصي على أي حل. فالقضية عمرها من عمر صراع البشيرين. يومها، تقول الأبحاث نفسها، إن حدثاً مفصلياً حصل في الإمارة. وتمثل في قرار بشير الشهابي، تغيير الطابع «الكونفدرالي» لحكم الجبل، عبر توحيد الأمن والقضاء، وانتزاعهما من سلطة الطوائف. وافق المسيحيون. ورفض الدروز. فبدأت حروب الجبل الطويلة، ولما تزل...
بعد أسابيع قليلة على «نكبة» مسيحيي الشوف وعاليه، كان جعجع في دير القمر، يحاضر عن حل جذري للقضية المسيحية في لبنان، لا يستبعد التبادل السكاني. وبعدها بأسابيع أخرى، دخل جنبلاط إلى بيت الدين، مهدياً نصره إلى جدّه الشهيد، معلناً صرخته الشهيرة: ها قد عدنا يا بشير... فظل جعجع يستشهد بها أعواماً طويلة، تأكيداً لصحة قراءته...
مضت الأعوام، ليلتقي الرجلان ثانية، حول الطائف. كان الاثنان يتوجّسان من «عنجر». لكن توجّسهما من بعضهما كان موازياً. بعد أشهر على إسقاطهما المشترك لميشال عون، بواسطة الدبابات السورية، حاولا التلاقي، مجدداً ومن بعيد أيضاً.
مطلع عام 1991، قيل إن محاولة حوارية في العمق جرت بين غدراس والمختارة، وتولّاها أحد الكوادر من قبل جعجع، ومسؤول اشتراكي من قبل جنبلاط. عقد لقاء مطوّل في غدراس، تناول عمق «القضية اللبنانية». وانتهت شبه الخلوة إلى الاتفاق على لقاء ثان. في المرة الثانية استكمل الحوار، ليفاجأ المحاور الجنبلاطي، بتحميله أسئلة واضحة، تمّ تدوينها بدقة، حول جوانب القضية اللبنانية كلها. عندها غادر ممثل جنبلاط، وقيل إنه لم يعد.
مضت أشهر، قبل أن يتحرك ميشال المر على الخط. ذات يوم، وصلت ستريدا جعجع إلى المختارة، في سيارة «أبو الياس». قيل يومها، إن جعجع حاول العودة إلى الجبل، بواسطة «نصفه الحلو»... مرّت الأيام، ليظهر أن المحاولة ذهبت هباءً.
بعد عامين ونيّف، انفجرت كنيسة سيدة النجاة، فكان جنبلاط أول المتّهمين لجعجع. وكرّت الكوارث على «المقيم في غدراس»، كما سمّته بيانات أجهزة النظام الأمني اللبناني السوري. ومضت بعدها 10 أعوام. جعجع في السجن، وجنبلاط في السلطة. وحتى اللحظات الأخيرة التي سبقت جلاء السوريين، ظلت المواقف الجنبلاطية معارضة لتحرير جعجع، مساجلة لجنبلاطي عتيق مثل الراحل إدمون نعيم، في رفض «العفو».
بعد صدور القرار 1559، ومحاولة اغتيال مروان حمادة، وخروج رفيق الحريري من الحكم، تحركت «قاطرة» قرنة شهوان، فزار جنبلاط ستريدا جعجع في يسوع الملك قبيل عيد الميلاد عام 2004. وتوهّم البعض أن «اللقاء الثالث» قد نجح. اغتيل الحريري، قام الحلف الرباعي، خُيِّر جعجع من سجنه بين التحالف مع خصمه المسيحي ميشال عون، أو مع «عدوّه» اللبناني. فاختار الثاني، وانطلق مشوار التقاطعات الهجينة.
لكن حتى في ذروة ذلك التقاطع، لم يبدُ أن بين الرجلين، أكثر من «الرعب السوري». وحتى في تلك السكرة، ظل جنبلاط يزلُّ لساناً وتعبيراً. فيستذكر حرب الجبل ممجداً، أو يشكر «جنود الجيش الشعبي» على انتصاراتهم في سوق الغرب، أو يقف تارة إلى جانب حسن نصر الله، وطوراً إلى جانب الحريري الابن، من دون أن يزور جعجع مرة واحدة، ومن دون أن ينسى ممارسة هوايته المفضلة، في الغمز وسوق الدعابات على الركن الثالث في «الحلف الثلاثي».
بعد ثلاثة أعوام ونيّف، يعتقد البعض أن حسابات جنبلاط باتت محسومة ومحصورة بثابتتين: الخوف من «القوة»، والحاجة إلى «السلطة». فيما سمير جعجع خارج الأمرين. فلا قوة عنده تخشاها المختارة، ولا سلطة لديه تحتاجها.
فبعد حوادث بيروت واتفاق الدوحة، صارت معادلة الحوافز الجنبلاطية أكثر وضوحاً. القوة عنوانها «حزب الله». والسلطة عنوانها قانون الانتخاب المكتسب، و«عدّة شغل» الانتخابات، المضمونة بين «الدعم» الحريري، والحشدين الدرزي والسنّي، من إقليم الخروب إلى عاليه، ومن «بيروت الثالثة» إلى مقعد راشيا. وفي تلك الصورة كلها، لا وجود لسمير جعجع. وإلا فكيف ينسى وليد جنبلاط أن نواب «القوات» خمسة، لا أربعة، كما احتسبهم أمس. إلا إذا قصد عدم احتساب نائب الشوف، ليؤشر إلى أنه يعرف حساب المقاعد، فيما غيره يخطئ في حسابات السياسة.
تقول إحدى الدراسات التي بنى جعجع عليها مشروعه الفدرالي سنة 1989، إن الجنبلاطية السياسية تؤمن بنوع خاص من الديموقراطية في الجبل. وتسميها «الديموقراطية التراتبية». فثمة مراتب في التحالفات والجماعات، تماماً كما مراتب الروح، في معتقدات أهل الجبل...