نقولا ناصيفتكمن مشكلة مسيحيي قوى 14 آذار، كما الرئيس ميشال عون، في أن أياً منهما لا يستطيع أن يبرح موقعه في تحالفه الحالي إلى آخر. ولأنه لا مكان لكليهما إلا حيث هما. اختبر عون انتقادات قاسية وحادة عندما اندفع حزب الله في مغامرتين مسلحتين هما حرب تموز 2006 مع إسرائيل وأحداث 7 أيار 2008 في بيروت. كانت للحزب مبرّرات في مجازفتيه سلم له بها فريقه، ولم تقنع بالتأكيد جمهوراً كبيراً من المسيحيين. مع ذلك صمد خيار عون الذي أصرّ على تحالفه وعدّه اختياراً صائباً لم يحله رئيساً للجمهورية، إلا أنه جعله الزعيم الماروني والمسيحي الأقوى.
واختبر مسيحيو قوى 14 آذار بدورهم موقعه في هذا التحالف، عندما وثقوا برفاقهم بأنهم سيعاملونهم حلفاء حقيقيين قبل أن يقعوا في التجربة مرتين أيضاً، عندما تخلى رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري ورئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط عن المرشّحين الموارنة في قوى 14 آذار للرئاسة ومضيا في تأييد مَن كانا قد أجمعا ـــــ والرئيس المكلف فؤاد السنيورة ـــــ على رفض وصوله إلى الرئاسة، وهو قائد الجيش العماد ميشال سليمان، بمناوأتهم تعديل الدستور أو تأييد حليف لسوريا. ثم كان الامتحان الثاني في تأليف حكومة الوحدة الوطنية.
وعلى غرار ما فعلته دمشق في حقبتها اللبنانية، عندما كانت في مواجهة مع المسيحيين، فوزّعت في الانتخابات النيابية المتتالية وفي الحكومات المتعاقبة النواب والوزراء المسيحيين على مرجعيات أربع غير مسيحية، هي الرئيسان نبيه برّي ورفيق الحريري وجنبلاط وحزب الله، استمر الحريري الابن والزعيم الدرزي في الخطة نفسها. اقتطع كل منهما لنفسه حصة من الوزراء المسيحيين في حكومة 2005، ثم في الحكومة الجديدة، في وقت كانا يريان فيه الحليف المسيحي الآخر كالرئيس أمين الجميل ولقاء قرنة شهوان ورئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية شركاء فعليين. كان الحريري وجنبلاط قبل ذلك دائنين كبيرين لعدد وافر من النواب المسيحيين الذين ربحوا انتخابات 2005، إما بأصوات الناخبين السنة والدروز، أو بفضل تمويل الحريري حملاتهم الانتخابية.
ومع أن الحريري، وقبله الرئيس المكلف، قلّلا من أهمية التباين والخلاف بين أفرقاء قوى 14 آذار حيال التوزير وتوزيع الحقائب في آن معاً، فإن أقطاباً مسيحيين رئيسيين في هذا التحالف لا يكتمون امتعاضهم من طريقة إدارة تأليف حكومة الوحدة الوطنية. وهم يعزون الدوافع إلى:
1 ـــ أن مراحل تأليف الحكومة الجديدة بيّنت لقوى 14 آذار، على طرف نقيض مما كانت قد أشاعته منذ أكثر من شهر ونصف شهر، أن اتفاق الدوحة لم يكن متوازناً على الإطلاق، بل ترجم الوقائع العسكرية التي فرضها حزب الله وحلفاؤه على الأرض، وخصوصاً في بيروت، مكاسب سياسية كبيرة في السلطة، لم يكتفِ الاتفاق بإعطاء المعارضة الثلث الزائد واحداً في حكومة الوحدة الوطنية فحسب، بل أضعف أيضاً حجة الموالاة في التفاوض، فجرّدها من حقائب رئيسية في الحكومة الجديدة، وجعل تقاسم ما بقي منها أزمة جدّية بين الحلفاء. ذلك أن ما انتزع من الموالاة لم يُعطَ لرئيس الجمهورية كي يحقق التوازن السياسي داخل السلطة الإجرائية، وما حصدته المعارضة في المقابل أحالها أكثر فاعلية من الصلاحيات الدستورية للرئيس وكذلك من جدوى تمثيل قوى 14 آذار الغالبية النيابية.
2 ـــــ لم يجد الأفرقاء المسيحيون مبرّراً لحصول الحريري وجنبلاط على وزراء مسيحيين لهم في الحكومة الجديدة، ولسعيهما إلى تقاسم التمثيل المسيحي بين قيادات مسيحية وإسلامية، في وقت حصر فيه حزب الله وحركة أمل تمثيل الوزراء جميعاً بعون، بعدما كانا قد دعماه لوضع اليد على الحقائب التي أصرّ عليها. ومع أنهم لا يقللون أهمية الدور الذي اضطلع به الحزب حيال عون بجعل استرضائه مدخلاً حقيقياً لتأليف الحكومة الجديدة، فإن بعضهم يقول إن إبدال حقيبة الأشغال العامة والنقل بحقيبة الاتصالات للتيار الوطني الحرّ كان مطلباً ملحاً للحزب بغية طمأنته إلى دور الاتصالات في المرحلة المقبلة، وحماية شبكة الاتصالات التي يديرها. وإذ يشير ذلك إلى مغزى تفهّم كل من عون وحزب الله مصالح الآخر في تحالفهما السياسي، لم يراعِ الزعيمان البيروتي والشوفي مصالح حلفائهما المسيحيين وصورتهم في شارعهم. دافعت أوساط الحريري في أوقات سابقة عن رغبته في توزير النائب السابق غطاس خوري إخلاصاً لعلاقته وثقته به على نحو مماثل للإخلاص الذي حفظه رئيس الجمهورية لوزير الدفاع إلياس المرّ. وفضح جنبلاط أمس تحفّظاً كان قد كتمه طويلاً حيال جدّية علاقته بالقوات اللبنانية، وما كلامه عن نسب التمثيل وتمييز حجم كتلته عن كتلتها إلا مظهر صريح للشكوك المحيطة بهذا التحالف.
اقترب الزعيم الدرزي أكثر من استيعاب خلاصات أحداث بيروت وما أفضى إليه اتفاق الدوحة، وبدا أقرب أيضاً إلى القبول بتسوية كانت حملته على استعجال تأليف الحكومة، وتزكية توزير النائب السابق طلال أرسلان من أجل وحدة الطائفة، واستعادته تعبير المقاومة بعدما عدّها لأشهر ميليشيا. مثل هذا الاستيعاب لم يدركه بعد أفرقاء مسيحيون رئيسيون في الموالاة. وقد يكمن هنا أيضاً فحوى إصرار جنبلاط على توزير مسيحي ـــــ وإن واحداً ـــــ كي يجدّد ثقته بحلفاء مسيحيين تقليديين كهؤلاء في دائرته الانتخابية، لا بما جمعه بهم عداء مشترك لسوريا وحزب الله في طريقه إلى انحسار تدريجي. الأمر يبدو مختلفاً لدى الحريري، إذ يوازن بين واقعية جنبلاط التي تقود إلى التسوية، وحرصه على عدم انهيار التحالف العريض الذي يتزعمه منذ انتخابات 2005، ولا سيما مسيحيوه.
مع ذلك لا يتردّد أقطاب مسيحيون في قوى 14 آذار في القول إن الطريقة التي عامل بها الزعيمان السنّي والدرزي حلفاءهما تبدو وكأنهما يقدّمان انتخابات 2009 هدية لعون، بحصوله من حلفائه على حقائب أساسية وخدماتية، وبتوسّع نطاق تمثيله المسيحي، بينما تشتت قوى 14 آذار تمثيلها المسيحي في الحكومة الجديدة على أفرقاء بات لكل منهم منذ الآن حسابات سياسية وانتخابية مختلفة لا تدخل في دعاياتها هذه المرة المحكمة الدولية والشهداء والعداء لسوريا وتجريد حزب الله من سلاحه.
بعدما كانت جهود تأليف الحكومة الجديدة، في أسبوعيها الأولين، تتركز على خياراتها أكثر منها الحقائب، وأبرزت هذا السياق الإنتقادات التي وُجّهت إلى توزير االمر في حقيبة الدفاع الوطني قبل على أن يتفق رئيس الجمهورية والمعارضة على أن بتّ الملفات الأمنية والادوار العسكرية ذات الصلة بالخيارات تلك يكون توافقياً، أضحى سباق الأيام الأخيرة على الحقائب لتثبيت توازن القوى الجديد فيها.
ولعل أسوأ ما ينطوي عليه تأليفها على نحو هذا التوازن أنها تجمع الموالاة والمعارضة اللذين سيخوض أحدهما انتخابات 2009 ضد الآخر وجهاً لوجه داخل مجلس الوزراء بغية السيطرة على الأكثرية النيابية المقبلة، من غير أن تكون ثمة مرجعية يسعها ــــــ بموقعها وصلاحياتها ــــ الإضطلاع بدور صمام الأمان لمنع انفجار الحكومة. وسيكون عدد وافر من الوزراء مرشحاً لهذه الإنتخابات ومستعداً لخوض الاشتباك السياسي في هذا الفريق أو ذاك، واستخدام الحقائب تبعاً لذلك لهذه الغاية، ما خلا الوزيرين الأكثر التصاقاً بإدارة الانتخابات وحمايتها من نزق زملائهما، هما وزيرا الداخلية زياد بارود والعدل ابراهيم نجار.