تاجر بالة أحبّ مهنته إلى حدّ رفضه التمثيل مع أبرز مخرجات لبناننجح أبو عباس خلال فترة لا تتعدى الـ15 عاماً في اكتساب شهرة بين نساء حيّ السلم جعلتهن مياومات في محلّ يؤمن لهنّ حاجاتهنّ من الملابس بأسعارٍ زهيدة... مسّاح الأراضي، الثلاثيني اليوم، نجح أيضاً في تجارة بدأها مستديناً 500 دولار وبات رأسمالها اليوم 150 ألفاً
راجانا حمية
حطّت الطائرة في مطار بيروت الدولي ونزل محمّد منها بعد سنوات من الغياب. هي الزيارة الأولى له منذ سافر للعمل في دبي. شوقه للعائلة لم يكن على قدر لهفة الوالدة «أم خيرو». ففي اللحظة التي كان ينظر فيها إلى والديه متلهّفاً، كانت تشغله أيضاً رؤية شخص آخر لا يمتّ له وللواقفَيْن أمامه بأيّة صلة قرابة. يشتاق إلى «أبي عبّاس» صاحب مستودع «الألبسة المستعملة»، الذي يقطن على مقربة من منزله في حيّ السلّم.
لم تفاجئ رغبته في رؤيته أحداً، وخصوصاً أنّه لم يكن الوحيد في العائلة الذي أعرب عن هذه الرغبة، فقد سبقه والده إلى ذلك. لكنّ الفارق أنّ الابن أحبّ الرجل، فيما لم يشعر الوالد بالشيء نفسه، حيث لا يزال، كلّما تأخّرت أم خيرو في العودة إلى المنزل، يتّصل بها للسؤال عن مكانها «وينك، مررت بأبي عبّاس أو أنّك لا تزالين عنده؟». وغالباً ما تجيب أم خيرو عن سؤال الزوج بالنفي، وهي تفتّش في كومة الثياب المرصوفة على «الستاندات» في محلّ أبي عبّاس. تنهي المكالمة وتبتسم، فيردّ أبو عبّاس بأخرى، ويبادر زبائنه «المياومين» بتعليق لا يخلو من المرح «صار ع همّة بو خيرو ليتركها»، ومن ثمّ يلتفت إليها، مستكملاً حديثاً كان قد بدأه «ولك يا أم خيرو أدمنتِ على الباله، وتركتِ زوجكليست أم خيرو السيدة الوحيدة التي أدمنت التجوّل يومياً في زوايا ذاك المكان الذي لا يحمل اسماً. كثيرات انتقلت إليهن العدوى نفسها، التي أكسبت أبا عبّاس شهرة واسعة بين أبناء الحي وبعض المناطق المجاورة، حتى بعد أن بات يُعرَف بـ«الممثّل». وقصة «الممثّل» يرددها أبناء الحيّ مع ذكر الاسم الحقيقي للرجل، غازي الأطرش، الذي يكاد هو نفسه ينساه. لكن البحث عنه تحت هذا الاسم لا يساعد في الوصول إليه، فكان لا بدّ من الاستعانة باللقب، الذي تبيّن، بعد العناء، أنّه أيضاً ليس الأساس. أبو عبّاس في الحي، أو «الممثّل» أو غازي نادراً، يُعرف اليوم بصاحب مستودع «الفيديو كليبات».
هناك، في ذلك المستودع يستقبلك أبو عبّاس... وأم خيرو. ومن دون أن يعرف قاصديه، تكفيه الكاميرا التي يحملها هؤلاء والورقة والقلم ليبدأ سرد حكايته التي بدأت في سنّ مبكّرة. كان غازي في التاسعة عشرة من عمره، يعمل في تنفيذ «خرائط المساحة»، ويدّخر بعضاً من مرتّبه لشراء الملابس. لكن المرتّب لم يكن يكفيه لشراء ملابس وإعالة زوجته الجديدة في الوقت عينه. بعد حسابات وأخذٍ وردّ، «تجرّأ» أبو عبّاس على القبول بشراء ثياب مستعملة، مرتبة بأقلّ سعر ممكن، بناءً على نصيحة بعض الأصدقاء. قصد أحد المحال في منطقة «عين السكّة» في برج البراجنة، «كانت المرّة الأولى محرجة»، إلّا أنّ التفكير بوضعه المعيشي «اللي ع قدّ الحال» دفعه للبدء بتجربة جديدة، ربّما لن تنتهي أبداً. هناك، نسي أبو عبّاس خجله، وغرق في كومة الثياب المرصوفة على الطاولات، يفتّش عمّا قد يعوّضه «هذه النزلة». ساعة من التفتيش، تغيّرت بعدها المعادلة. وجد طلبه بأقلّ سعر ممكن «بنطال وتي ـــ شيرت وحذاء بعشرة آلاف ليرة فقط».
كثرت زيارات أبي عبّاس إلى محل عين السكّة، وفي كلّ مرّة كانت تترسّخ لديه الفكرة أكثر فأكثر «لماذا لا أترك وظيفتي وأفتح محلاً للثياب المستعملة؟»، وُلدت الفكرة، ولكن «من أين يأتي المال؟». اقتناعه بنجاح مشروعه دفعه للاستدانة من أخيه مبلغ 720 ألف ليرة «فتحت بها محلاً من 3 بالات». وخلال يومين فقط استطاع إرجاع المال، وما تبقّى من الثياب «بات ربحاً، أشتري بأمواله ثياباً أخرى».
بعد فترة من العمل استطاع ادّخار أوّل مبلغ خاص به، مكنّه من استئجار محلّه الأوّل في «حيّ الأرامل» إلى جانب نهر الغدير. في هذا المحلّ، رُزق طفله الأول فبات عليه زيادة ساعات العمل من أجل «الضيف الجديد» على العائلة. مع الوقت، لم يعد يستطيع تحمّل ساعات الغياب الطويلة عن منزله في برج البراجنة، فكان القرار بجلب ابنه وزوجته معه إلى المحل، التي سرعان ما «التقطت» تفاصيل العمل: «الابتسامة الدائمة وتلبية الزبون مهما تكن طلباته» من المستودع الوهمي. هذا المستودع الذي اخترعته الزوجة من أجل «استمالة الزبون»، فكانت تبيع في غالبيّة الأحيان ما يأخذه لها زوجها من الثياب. استمرّت الحال على منوالها، بيع ومن ثمّ شراء، وتأمين لقمة العيش وبعض متطلّبات الطفل، إلى أن «جاء الفرج».
في أحد الأيّام، «فاض نهر الغدير» وغرق أحد البيوت المواجه لمحلّهبالمياه، وفي داخله أمّ وثلاثة أطفال. لم يستطع أحد اجتياز النهر، فيما كان صوت الصراخ يرتفع، فما كان من أبي عبّاس إلّا أن «حملتُ إحدى البالات ونزلت في النهر. بعد طول عناء، وصلت إلى البيت، كان بابه حديدياً، سددت المنافذ بالثياب وأخرجتهم». عاد في ذلك اليوم، سيراً على الأقدام، من محلّه في حيّ الأرامل إلى بيته في برج البراجنة. في صباح اليوم التالي «كان الفرج، حيث حضر أشقاء المرأة التي غرق بيتها وشاركوني بخمسة ملايين ليرة».
بدأت حياة أبي عبّاس تتغيّر، اشترى بالملايين الخمسة بضاعة جديدة تناسب موسم المدارس، إضافة إلى «بعض الأدوات المنزليّة المستعملة». بعد الملايين الخمسة، صودف أن تعرّف إلى «أبو محمّد الصبّاغ»، أحد تجّار الثياب المستعملة الكبار، فكان يشتري منه «الثياب الأوروبيّة المستعملة». في إحدى المرّات، اشترى أبو عبّاس البضاعة، وفوجئ بوجود «بضاعة زيادة بحوالى 120 ألف ليرة». كانت الساعة في حينها الثانية عشرة ليلاً، رغم ذلك لم يجد مفرّاً من الرجوع إلى منزل أبي محمّد ليعيد له المبلغ المتبقّي من المال. ويومها عرض عليه الأخير المشاركة واستأجر له المستودع «بـ20 ألف دولار، وحوالى 130 ألف دولار للبضاعة».
150 ألف دولار، استرجع معها أبو عبّاس قصّته مع «أوّل 720 ألف ليرة»، فكان عليه بذل جهود كثيرة للحفاظ على ما وصل إليه. غيرأنّ الأمور لم تسعفه كثيراً، وما إن مرّ شهران على الشراكة «حتّى فُكست»، وكان عليه أن يختار «إمّا ترك المستودع مقابل خمسة آلاف دولار أو التسديد والبقاء فيه». كان الخيار الثاني، وبدأت رحلة التسديد، بالتزامن مع بدء قصته مع «الفيديو كليبات». ففي أحد الأيّام، قصدت مساعدة إحدى المخرجات، مستودع أبي عبّاس لشراء ما يلزمها من الثياب القديمة لفيديو كليب كانت تتحضّر لتصويره، وكان أن استقبلها أبو عبّاس بالكثير من الترحاب «والكلمة الطيّبة»، المرّة تحوّلت إلى مرّات، طلبت المساعِدة في إحداها صورة من أبي عبّاس، فلم يمانع. بعد بضعة أيّام اتّصلت المخرجة به طالبة منه التمثيل في فيلمها الجديد، ولكن لا إجابة إلى الآن، فقد اعتاد الأخير على حيّه وناسه وربّما أم خيرو، ولم يعد قادراً على ترك المهنة، وإن كانت الكلفة التي يتوقع تقاضيها من الفيلم تفوق الـ150 ألف دولار!


سرّ المهنة

الوصايا الثلاث
يحرص أبو عبّاس على تلقين زبائنه «المياومين» ثلاث وصايا. أولاها أن لا يخجلوا من شراء الثياب المستعملة لأنّه «في محلّات كهذه يستطيع كلّ منهم صنع «لوكه» بنفسه، فلا يكون مضطرّاً لمسايرة موضة لا تعجبه أو مسايرة ذوق صاحب محلّ الألبسة الجاهزة».
ثانياً، اعتماد المراوغة «البيضاء»، إذ يترك أبو عبّاس الخيار لزبائنه بذكر مصدر ثيابهم أو عدمه «باستطاعة الزبون أن يشتري أحلى كرافات من محلّي وأن ينسبها لجورجيو أرماني مثلاً، وهذا يتعلّق بحنكة الزبون ومدى قدرته على إظهار قيمة ما اشتراه».
أما ثالثاً، فالنصيحة مزدوجة لأبي عبّاس والزبون بناءً على مقولة «لا فرق بينك وبين أخيك». وهو يرى أن «نجاح التجارة هو في عدم إشعار الزبون بالفرق بينك وبينه. كل زبون له طريقة خاصة في التعامل معه، والمهم أن لا تعامله بقسوة، ولو كان هو نفسه غير لائق».