نيويورك ـ نزار عبود
يشعر دبلوماسيون غربيون بأن المبادرة لم تعد في يد أصدقائهم التقليديين في بيروت. كما أن الصداقات في لبنان والمنطقة بدأت تتبدل. إنهم يتوقّعون الكثير من التطورات في الوقت الضائع، نظراً لأن الأجهزة الأمنية السرية تتمتع بحرية سياسية أكبر في «الأزمنة الرمادية». وتخشى أن يلجأ كل فريق إلى مزيد من التكتم في تحركاته ضمن معادلة «زواج الإكراه» السياسي الحاصل، وبغية طمس ما قد يكشف حقيقة أعماله عندما كان متمتعاً بقسط أوفر من حرية الحركة.
أحد هؤلاء قال إن «صبر السلطات اللبنانية نفد بالنسبة لقضية بدء عمل المحكمة الدولية، وبدأت تشعر بأنها سراب وبأن المجتمع الدولي يخذلها، وأن إطالة عمل لجنة التحقيق الدولية الخاصة باغتيال الحريري ستة أشهر يعني حتماً تأخر انطلاقة المحكمة إلى أجل غير مسمى. كما تشعر بأن الاحتفاظ بالضباط الأربعة رهن الاعتقال لن يطول، وإذا خرجوا من السجن فستكون الموالاة في وضع حرج على الصعيدين الداخلي والدولي».
ورفض الدبلوماسي الخوض في شرح انعكاسات خروج الضباط وقال: «هناك خشية من تبديد جهد اللجنة والتمديد لها مرة أخرى في نهاية العام الحالي، ولن يكون من شأن ذلك، إذا حصل، تمكين المدعي العام الدولي من التوصل إلى اتفاق مع قاضي ما قبل المحكمة. وحتى لو جرى اتفاق، قد لا تقبل هيئة المحكمة بتوجيه اتهامات دون إرفاقها بقرائن وإثباتات تتناسب مع المعايير القانونية.
ولم يخف الدبلوماسي الغربي مخاوفه من المناخ الأمني الانتقالي الحالي في لبنان. ففي المناخ السابق كانت لجنة التحقيق تعمل في تنسيق مستقر نسبياً مع قوى أمنية منسجمة معها، لكنها في الصيغة الجديدة ستستغرق عملية بناء الثقة بينها وبين قادة الأمن وقتاً
طويلاً.
بدأ الأمر يقضّ مضاجع أعضاء اللجنة الدولية، حتى قبل أحداث أيار. فمنذ تقديم القاضي بلمار تقريره الأول، وبعد اختفاء الشاهد محمد زهير الصدّيق، لم تعد الثقة كسابق عهدها بين بلمار من جهة وسلطات الأمن الداخلي اللبناني من جهة أخرى. حتى إنه تحرّك أحياناً في الشارع دون إبلاغ السلطات الأمنية عن وجهته، كما جرى في التحقيق في قضية اغتيال جورج حاوي.
ابتعد بلمار كثيراً عن مسار التحقيق الأول الذي رسمه المحقق الألماني الأسبق ديتليف ميليس والذي يحظى برضى فريق 14 آذار. وبدا بلمار مكملاً لخط سلفه سيرج براميرتس الذي تعرّض معه لنقد الموالاة، وكذلك ميليس نفسه. وجه بلمار اتهامه الواضح نحو «شبكة إجرامية»، وبذلك كاد يخرج سوريا والضباط الأربعة ضمناً من دائرة الشبهة الأولى، أو هكذا بدت الأمور لهم في الوقت الراهن. ثم إنه ترك الباب موارباً أمام تشعبات القضية، ومنها التقاطع بين الجماعات الراديكالية السنيّة وميليشيات استنبتت في مرحلة ما من مراحل الأزمة اللبنانية التي تلت 14 شباط 2005. وإذا مضى بعيداً في البحث عن «الحقيقة»، فربما لن تسرّ الحقيقة التي سيكتشفها أولئك المستثمرون فيها.
ولا يغيب عن الصورة العامة الانفتاح الفرنسي ـــ السوري، والمفاوضات السورية ـــ الإسرائيلية عبر تركيا، التي لا تبدو أن واشنطن تفعل ما يكفي لتعطيلها. كلها أمور قد تضعف الرهان على تغيير النظام في سوريا، التي كانت العدو الأول لـ«ثورة الأرز». ولا يزال التمويل الخجول لمشروع المحكمة يُقلق، فصندوقها يضم أربعين مليون دولار من أصل 130 مليوناً مطلوبة للسنوات الثلاث الأولى. وفي عالم التقلّب الراهن، من السهل على الدول التملص من أي التزام إذا تضاربت مصالحها السياسية مع انطلاق عمل المحكمة.
بلمار تحرك في الأشهر الماضية في تحقيقاته بسرية باغتت حتى القوى الأمنية الخاصة في بيروت، في ظروف أمنية وصفها هو نفسه لأعضاء مجلس الأمن الدولي بالخطرة، علماً بأن تقريره سبق الأحداث الدرامية التي دارت في بيروت الأسابيع الأخيرة.
الدبلوماسي الغربي يعتقد أنه ربما لم تتأثر لجنة التحقيق مباشرة بالأحداث الأخيرة، لكن ما جرى يستدعي مضاعفة عدد أفرادها وعدد حراس الشهود، ولا سيما إذا ما بقيت الأمور على توترها، كالجمر تحت الرماد. وحتى لو هدأت الأوضاع بفعل جهود عربية ودولية، فإن السنة الانتخابية في لبنان وخارجه قد تترافق مع مخاض مؤلم، وهذا يقتضي توافر مساهمات مالية كبيرة، وكوادر بشرية غير اعتيادية.
ويرى أنه من الصعب في الظروف الانتقالية الراهنة جلب عناصر أمنية أجنبية من الخارج قد توصف من جانب هذا الفريق أو ذاك بأنها تنتمي إلى جهة معينة.
وسأل الدبلوماسي الذي يرى ضموراً للدور الأميركي في لبنان، بعد الحوادث الأخيرة في بيروت والجبل، «هل يمكن تصوّر أنّ محقّقاً مثل القاضي ديتليف ميليس يستطيع زيارة بيروت والتنقّل بطمأنينة بعد التغيّرات الأخيرة في السلطة؟». وبقليل من اللامبالاة تجاه الأجواء التوافقيّة السائدة بين الأطراف اللبنانية، يتساءل الدبلوماسي «من يضمن أنّ حكومة تشارك فيها المعارضة بثلث معطّل ستقبل رصد الاعتمادات المالية للمحكمة الدولية بالسلاسة نفسها التي كانت ستجري فيها الأمور في عهد الحكومة السابقة؟».