عزيزي الله، لو رأيتني في الكنيسة هذا الأحد، سأريك ثيابي الجديدة. كما سأسألك إن كنت خلقت الزرافة على هذا الشكل عمداً، أم كانت مصادفة؟ غالباً ما أذهب إلى البحر في الإجـازات الصيفية، وأنت ماذا تفعل، هل هناك بحرٌ في السماء، فتستمتع بوقتك كما نفعل نحن؟
ربى أبو عمو

أطفال لا يعرفون من الدنيا إلاّ القليل. يقتصر عالمهم على أم وأب وإخوة، أقارب، بعض الأصدقاء من المدرسة، الأساتذة... والله. يسألون كثيراً عن الأخير. كم عمره، شكله، حياته، كيف يعيش، هل يأكل ويشرب؟ هل هو مخيف وقاسٍ، أم حنون ويحبهم؟ ماذا يريد منهم؟ لماذا يعرف عنهم كلّ شيء.
هم ما دون العشر سنوات من العمر. يسمعون عن الله في المنزل. «الله يأخذنا إلى عنده. الله يحبنا، فلنشكره. الله بيننا، يرانا. كتّر خير الله...». يرسمون حوله الكثير من القصص. يخالونه بينهم دائماً ويُلبسونه ثياب البشر. عندما يذهبون إلى المدرسة يتحدثون عنه أيضاً.
إنها الحصة الأخيرة هذا النهار. اقتربت الساعة من الثانية ظهراً. أرخت لين جسدها الصغير على الكرسي، تنتظر سماع صوت الجرس لتعود إلى منزلها، وخصوصاً أن والدتها وعدتها بـ«البطاطا المقلية». تبدأ المعلّمة حصتها بالقول «اليوم سنتعلّم أغنية جديدة عن الله ولدينا مفاجأة».
تندمج أصواتهم المتشابهة في الأغنية، ترقص أجسادهم، يصمتون، وتأتي المفاجأة: «اليوم سنتكلّم عن اللّه. أتعرفون شكله؟ هل يشبهنا؟».

يشبه الملائكة

ترتفع الأيادي، يتلعثم جاد قبل أن يجيب. «الله كبير جداً، يشبه الملائكة، هو أبيض اللون ولديه أجنحة وهو يراقبنا الآن». يأتي دور لين «الله عجوز، لديه لحية بيضاء طويلة، لا يستخدم العكاز فهو الأقوى في العالم. ربما هو جميل كجدي. لديه عينان كبيرتان جداً حتى يستطيع أن يرى جميع الناس، في لبنان وفي أميركا»...
«لا، اللّه ليس مثلنا، أكيد ليس لديه عينان وفم مثلنا» تقول ليال ضاحكة «هو أبيض اللون، ولا يمكن أن نعرف شكله، ربما هو كالخيال». يؤكد جان هذه المعلومة «أنا رأيته في منامي منذ أسبوع تقريباً، يشبه الملائكة، ولديه صوت كالصدى».
ينجذب رامي إلى الموضوع فجأة، فيستيقظ من سهوته. يبدو أنه الوحيد الذي يمتلك الحقيقة. «عيون الله برتقالية» يقول جازماً. لماذا هي كذلك يا رامي؟ تسأله المعلّمة. يصمت، وينكمش جسده بعضه على بعض. هل البرتقالي هو لونك المفضل؟ يهز رأسه إيجاباً. لكن المعلمة تضحك، إذ تدرك أنها ليست الحقيقة. فرامي أراد أن يجعل الله أيضاً عونياً.
طيّب. سؤالٌ آخر. ماذا يفعل الله الآن، وكيف يمضي أوقات فراغه؟ لا تتسرّعوا في الإجابة. الله يرانا، يراقبنا. هكذا يجيب معظم الأولاد. إلاّ أن فادي اختلف معهم. «الله يلعب الآن مع الملائكة والأرواح الميّتة». تسرح عيناه لثوانٍ حتى يبدو أنه يتخيّل المشهد. يستعيد انتباهه حين يرتفع صوت المعلّمة، إنذاراً منها حتى يستعيد الصف هدوءه.
هل عرفتم أن الله تزوّج؟ ينظر بعضهم إلى الآخر. ترتسم ابتسامات خجولة على ثغورهم، وتتحوّل أناملهم الصغيرة إلى «معجون» طريّ يراقبونها وهي تتحرّك. تضحك فرح فيما ينفي أحمد «الله لا يتزوج لأنه الله. كما أنه لا يوجد الله أنثى في السماء كي يتزوجها فهو يجلس وحيداً في السماء. أما الملائكة، فهم من جنسٍ آخر، ويستطيعون فقط أن يتزوجوا من بعضهم». تستطرد سارة «كيف يتزوج وهو في السماء، فالذين يعيشون فوق لا يتزوجون. هذا عدا عن كونه عجوزاً». يتابع نادر «كما أن الله مشغول بنا جداً ولا وقت لديه. يريد أن يرانا ويسجّل خطايانا، ومن ثم يغفر لنا».
ولكن كيف يستطيع أن يرانا، فالمسافة بين السماء والأرض كبيرة جداً؟ تسأله المعلّمة. «الله ذكيٌّ جداً». يجيب سريعاً، لكنه يبدو غير مقتنع بما قاله، إذ يطرح هو السؤال هذه المرة: كيف يكون ذكياً وليس لديه عقل؟ تخبره المعلّمة أنه ليس ضرورياً أن يكون لديه عقل. فالإنسان يملك قدرة صناعة «الروبوت»، والله يستطيع خلق كل شيء.

لماذا خلق الإسرائيليين؟

فجأة، يرتفع صوت سارة الصغيرة الجالسة في زاوية الصف. أرادت أن تقول لزملائها معلومة ربما يجهلونها.
«الله يأكل مثلنا. وحين نصلّي له، يصله بعضٌ من مالنا، حتى إذا نفد ماله، يستطيع شراء الطعام من المحل». إذاً الله يأكل ويشرب مثلنا، تقول المعلّمة. يجيبها رائد، «أكيد فهو من خلق البراد».
هذا الحديث كان السبب الذي دفع كارلا للتعبير عن هواجسها التي تؤرقها فعلياً، وتطرحها على أمها دوماً: إذا قرّر الله إقامة عرس هل يصلنا الصوت؟ أعلم أن الله خلق كل الناس جيدين، لكن لا أفهم كيف خلق الإسرائيليين؟ تصمت قليلاً. تتذكر إجابة أمها: الله لم يخلقهم أشراراً، هم أصبحوا كذلك، لوحدهم.
لم تنته تساؤلاتها عند هذا الحد. تطلب من المعلّمة أن تشرح لها كلمة حزب. الحزب هو عبارة عن مجموعة من الناس، يجتمعون حول فكرة معينة، ويملكون السلاح. هذا يعني أن الله لديه سلاح (حزب الله)!؟
خارج الصف الحديث يتكرر، هذه المرة متدخلاً في تفاصيل الحياة اليومية.
قرّرت ريما (أم أيمن) التوقف عن العمل لمدة سنتين، قالت في نفسها إنها ستقتصد قليلاً وستحاول عدم الإفراط في المصروف لكي تخصص وقتاً أطول لطفلها. وعندما طلب منها ابنها لعبة غالية الثمن أدخلته إلى عالمها شارحة له عدم قدرتها على دفع مبلغ كهذا في الوقت الحالي. في هذا اليوم، اكتشفت ريما إلى أي درجة يمثّل الله عقدة بالنسبة لابنها، هو الذي وضع الحق في كل مشكلاته على الله. تتذكر أنه وجّه لها مجموعة من الأسئلة. أين هو الله الذي تعبدينه، لماذا لا يبعث لك المال؟ ألا يعرف أننا فقراء وأنني أتعذب؟ أين هو، لا أراه. هو الذي جعلك تطلّقين والدي، وها أنا أعيش من غير أب...
بعدها، لم يكن من خيار أمام ريما سوى العودة إلى العمل مجدداً لتأمين المال. إلاّ أن أكثر ما فاجأها، هو اعتقاد ابنها أنها هي الله، لأنها استطاعت أن تؤمّن له كل احتياجاته، التي كان يتوجب على الله تأمينها له. حاولت إقناعه بأن الله ساعدها في الحصول على عمل، لكن من دون جدوى.

ذكريات طفولة

هي قصص، يعيش الأطفال معها فتتحوّل إلى حقيقة في عقولهم. يحذفون منها ويضيفون إليها. يتصارعون معها حتى يغلبوها. يريدون أن يصلوا إلى الحقيقة المطلقة. حتى فطرتهم قادرة على الإحساس بها. قصص سيذكرونها حين يكبرون، فيضحكون. والأهم سيكتشفون أنهم لم يصلوا إلى الحقيقة المطلقة.
تعود زينة إلى الماضي، بل هو من يقفز إلى ذاكرتها. قصةٌ انطبعت في مخيلتها حتى اليوم. كيف لا وجدّها قد اضطرّ إلى طردها من صالة الجلوس إلى الخارج بعدما أحرجته. تروي القصة. كان جدي يناقش وبعض الضيوف مسألة وجود الله، فقرّر أن يثبت لهم قناعاته بوجود الله واختلافه عن البشر مستعيناً بحفيدته، الطفلة التي بلغت الخمس سنوات حديثاً. فحتى الأطفال برأيه، قادرون على استشعار وجود الله، وتمييزه عن البشر بفطرتهم. يسألها: زينة حبيبتي، أنت تفهمين رغم صغر سنك. هل يركب الله حمارة؟ صدمه الجواب. نعم. صرخ في وجهها وأخرجها من الصالة. فزينة أحرجته بفطرتها. لم تنه قصّتها. جاء دور والدها الآن. «كان يعطينا موعظة عن الكذب. وقال وقتها إن الله يخنق الكذاب. لم أقتنع وكنت وقحة ربما في ردي عليه. إذاً سيخنقك الله لأنك تكذب الآن». المهم أنها نامت بعدما نالت نصيبها من الضرب.
سنوات قليلة مرّت بعد هاتين الحادثتين، وهي لا تزال تفكّر بالله، وتكتب عنه في دفاتر مذكراتها. «من أطلق عليك اسم الله؟ ما معناه؟ لماذا لا نسميك كما نشاء؟ هل هناك شخص آخر يحكمك، وسيحاسبك؟ لماذا لا تكشف نفسك؟ تعبت...».


«لا تخيفوا أطفالكم»

غالباً ما يعيش الأهل صراعاً بين نظرتهم «الحديثة» إلى تربية أولادهم كي لا يكرّروا التفاصيل التي أزعجتهم في طفولتهم، وبين عدم قدرتهم على التخلّص من تلك التفاصيل عينها فتفرض نفسها في كثير من الأحيان. هكذا يكون الأهل هم المشكلة في أغلب الأحيان.
فعندما يوجّه الأطفال الأسئلة التي تؤرقهم إلى أهلهم، فهذا لأنهم يثقون بقدرتهم على إعطائهم الإجابات التي يريدونها. بعض الأهل يقولون للأطفال إن «الله يحبنا، يبقى معنا ليحمينا، لا بل أكثر من ذلك، هو في قلوبنا». أما آخرون، فيرسمون الله على صورة المعذِّب، الذي سيرسل لهم حبلاً في الليل ليخنفهم إذا ارتكبوا خطأً ما، كالكذب أو عدم الطاعة، غير مدركين العواقب السلبية التي يمكن أن يسببها التخويف.
ترى الدكتورة في علم النفس، منى قربان، أن فكرة الله بالنسبة لطفل دون العشر سنوات هي أمر مجرّد «يصعب عليه فهم الأمور الغيبية في هذا العمر، وغالباً ما يبحث عن الأشياء الملموسة أو عن أشخاص يشبهونه. ويصبح الطفل قادراً على استيعاب هذه الأمور في الثانية عشرة من عمره». أما بالنسبة للقلق الذي قد يسببه الله للأطفال، من خلال اعتماد الأهل أسلوب التخويف مع أطفالهم، بهدف ردعهم عن أخطاء معينة، فترى قربان أن «الأساس يكمن في كيفية تقديم الفكرة. العقاب موجود في الحياة ويستطيع الأهل إيصال هذه المعلومة بصورة غير مخيفة، والتركيز بدلاً من ذلك على محبة الله للأطفال والإنسان بشكل عام». وتتحدث قربان أيضاً عن فكرة الموت، قائلةً إن «الطفل في عمر الثماني سنوات تقريباً، يعتقد أن الشخص حين يموت سيذهب إلى مكان بعيد ليعود منه بعد مرور بعض الوقت». لذا يجب عدم اعتماد أسلوب التخويف مع الأطفال، وخصوصاً في الموت، لأن ذلك قد يؤثّر على بقية حياتهم، ويعقّدها.