إبراهيم الأمينرغم الموجة التي اجتاحت الأوساط الشعبية أو النخبوية من السنّة خلال العامين المنصرمين، فإن قلّة كانت مقتنعة بأن حزب الله بات عدوّاً. وخلال عدوان تموز 2006 وعقب انتهائه كان كثيرون يعيدون صياغة موقفهم (العاطفي على الأقل) من المقاومة. لكن الانقسام حولها وسط هؤلاء بدأ يأخذ شكلاً مختلفاً منذ اندلاع المواجهة السياسية والشعبية بين المعارضة وحكومة 14 آذار. وخلال وقت قصير، باتت مجموعة «المستقبل» الإعلامية تعيش تحت وطأة حروب مفتوحة تبيّن سريعاً أن الفريق التنفيذي لها يخضع بشكل أو بآخر لتأثيرات مباشرة من النائب وليد جنبلاط وفريقه السياسي. ثم ما لبث الموقف أن تطور حتى بات البعض حول النائب سعد الحريري أو حول الرئيس فؤاد السنيورة يطلقون المواقف التي قيل إنها راسخة منذ زمن بعيد، ولكن الرئيس الراحل رفيق الحريري كان يمنع إخراجها إلى العلن. وظهر الأمر بداية على شكل مواقف سياسية تتحدث عن خيار المقاومة بوصفه إعاقة كاملة لمشروع الإعمار، إلى النكتة السمجة عن أن المقاومة ضد فكرة الدولة التي يتولى فريق 14 آذار إقامتها في لبنان.
وسرعان ما برز الجانب الثقافي ــــ الفكري للصراع حيث المذهبية من جهة، ومن جهة أخرى التأثر الواضح بما يجري في المنطقة من مواجهة بين إيران ودول الاعتدال التي ينمتي إليها الحريريون ورفاقهم، وبالتوتر الديني الذي نشأ بفعل الخطاب الذي تسلّحت به المجموعات السلفية، الجهادية منها أو التكفيرية ضد الشيعة، والتي تجاوزت ضمناً ما كان قائماً خلال التسعينات لينطلق ما بعد 11 أيلول ثم بعد غزو العراق، ويأخذ شكل الهجوم المباشر على الشيعة وإيران، وعلى حزب الله أيضاً. وربما تولى المستشار الأيديولوجي لرئيس الحكومة رضوان السيد الدور الأبرز في عملية التحريض هذه التي لامست حد التكفير على طريقة الزرقاوي وآخرين.
لكن ذلك لم يمنع تمدد حالة الاعتراض في الأوساط السنّية على هذا التوجه وعلى هذا الخطاب. ونجحت قوى معارضة من تيارات إسلامية وقومية عربية ومن شخصيات عادية ورجال أعمال، في تثبيت مواقع بدت مؤثرة في أكثر من ظرف، وساهمت من خلال مواقفها في كسر الأحادية التي قامت بعد اغتيال الحريري إلى فترة قريبة. وكان لهذه المواقع أثرها في الدفاع عن تيار المقاومة في لبنان وفلسطين. حتى إن الجماعة الإسلامية التي بدت سياسياً واجتماعياً أقرب إلى تيار المستقبل في العناوين الداخلية لم تقدر على السير في ركاب الحملة ضد المقاومة. وقد أظهرت مراراً خشيتها من التوترات ذات البعد الطائفي، لأنها تؤدي إلى نشوء تيارات سلفية من النوع الذي يحتاج نموّه إلى تراجع الآخرين من الجماعة نفسها بل تراجع تيار المستقبل أيضاً.
وقبل اندلاع الحوادث الأخيرة، بدا أن الشارع السنّي اللصيق بتيار الحريري وآخرين أقل ارتباطاً قد أظهروا بعض المواقف السلبية من حزب الله ومن أمينه العام السيد حسن نصر الله شخصياً. حتى وصل الأمر بعد الحوادث الأخيرة إلى حملة شتائم لم يحصل أن تعرّض لها قائد المقاومة منذ بروزه نجماً سياسياً. وكان لمؤتمره الصحافي الذي عقده قبل اندلاع المواجهات أو الخطاب الأخير الذي ألقاه لمناسبة عيد المقاومة والتحرير الأثر الواضح مما أظهر مجموعة من ردود الفعل التي قد تبدو غريبة وقاسية، ولكن من المفيد اختصارها بالآتي:
أولاً: صار كثيرون يستمعون إلى نصر الله باعتباره خصماً، مع شك مسبق في ما يقوله، وبالتالي فإن فكرة الإنصات إليه لا ترتبط فقط بسماع ما يقوله أو التفاعل مع حججه ومواقفه، بل في معرض التعرف على «وجهة العدو».
ثانياً: صار كثيرون من هذا الفريق يتعاملون مع مواقف نصر الله وتصريحاته على أساس أنها «نذير شؤم»، وأنها أقرب إلى البلاغات التي سوف ينفذها كل من هو في المعارضة، وأنها تعكس توجهاً خارجياً يتطابق مع أهداف إيران وسوريا.
ثالثاً: إن نصر الله لم يكن موفّقاً في المرة الأخيرة حين حصر الخلاف بين جبهتين، وتعامل مع السنّة جميعاً على أساس أنهم من الفريق الخصم له، ولم يميّز بين من هم في موقع وسطي ومن هم ملتصقون بالمستقبل، وتجاهل مخاطبة الفريق السنّي المؤيد للمقاومة والذي أصابه الذعر أو الإحباط جرّاء الحوادث الأخيرة.
رابعاً: إن نصر الله لم يبذل جهداً كافياً لمدّ اليد إلى الجمهور لا إلى القادة السياسيين، وأخطأ عندما تحدث عن «شهداء من فريقنا» وعن «ضحايا في فريقهم»، وكان في مقدوره إدانة التجاوزات التي حصلت، على قلّتها أو محدوديتها، لأن هناك من يعتقد بأن الجراحة بالمنظار التي لجأ إليها حزب الله في بيروت تعرّضت لانتكاسة على يد آخرين من غرزوا سكاكينهم في جسد المريض.
خامساً: إن نصر الله بدا كأن ما حصل يمكن أن يمر بهدوء، ولم يلحظ أن الشارع العادي مصاب بالإحباط وبما هو أقسى إذ يلامس حدود الهزيمة، وأن الموضوع يتطلب جهداً كبيراً من تطييب الخاطر إلى المبادرات السياسية والاجتماعية لإعادة وصل بعض ما انقطع. وإذا كان سكان بيروت يعرفون بالاسم من ارتكب التجاوزات، فإن الجميع يحمّلون الحزب المسؤولية العامة عما حصل، وبالتالي فإن الصورة تظل هكذا حتى إشعار آخر.
سادساً: والأهم في رأي فريق يعتبر نفسه مؤيداً لتيار المقاومة لكنه في موقع الخائف من نفوذها الكبير داخلياً، يتعلق بالتركيبة الخاصة بالسلطة، وأن حزب الله والسيد نصر الله يبذلان جهداً كبيراً لحماية التفاهم القائم مع التيار الوطني الحر ولا يبذلان في المقابل نصف الجهد للاقتراب من الفريق الذي يتحرك بين المستقبل والآخرين، وهو فريق يحتاج إلى حوار من دون تحديد دقيق لعناصره أو وجوهه لأنه تيار منتشر وسط الذين لا يكثرون من الانخراط في العمل العام. لكنهم من الذين يصنّفهم الجمهور الشيعي المعارض اليوم بأنهم «في الجانب الآخر»!
ثمة سجال قائم، وثمة كلام كثير من تحت السطوح ومن فوقها عن حزب الله والسيد نصر الله، وهو أمر لا يمكن تجاهله أو الاتكال على عامل الوقت لعلاج مشكلته.