ضرب المستقبل محدود وحزب اللّه لم يبلغ حلفاءه بنيّاتهفي خضمّ النقاش الذي فتحته المعارك الأخيرة في البلاد، وكذلك الذي تفتحه كل يوم آفاق الانتخابات النيابية المقبلة على البلاد، وبغض النظر عن القانون الذي سيقر، فإن ثمة مراجعات لا بد منها لمسارات طويلة بات يتعين التدقيق فيها، وخاصة في الشمال
فداء عيتاني
يعتب أحد المسؤولين في حزب الله في الشمال على المعارضة لعدم اتصالها به والاطمئنان عليه بعد إحراق منزله في حوادث طرابلس، والبعض أجابه بصراحة «ما هي الصلة التي أقمتها معنا حتى نطمئن عليك؟»، وآخرون اكتفوا بالقول له إنهم قصّروا بحقه، قبل أن يسرّوا لمن يعنيهم الأمر بأن الرجل نفسه أتى من خارج طرابلس، وأنه كان فيها مثل القائد المطلق الصلاحيات، وأنه حاول سوق الناس مثلما يقود الدرّاج دارجته. ولم يكن الأمر ليستوقف أحداً لو لم يكن الرجل الذي احترق منزله ومكتبه هو ممثل أقوى أطراف المعارضة في لبنان، وصاحب المشروع المقاوم، الذي كان إلى حقبة زمنية قريبة مشروع طرابلس نفسها.
المئات من شبان طرابلس نزلوا إلى الشواطئ إبّان الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، ووضعوا كل ما لديهم من أسلحة قرب البحر لمجابهة أي إنزال إسرائيلي، دون أن يسأل أحدهم نفسه عن الإمداد، والتمويل المالي، والضمانات الصحية، ولجان الدعم، والمراكز الانتخابية التي ستستقبل الأصوات، ومن سيكون نائباً، وعلى أية لوائح. ولكن هذا كان منذ أكثر من ربع قرن، أما اليوم فالأسئلة التي قفزت إلى الواجهة باتت من بديهيات السياسة اللبنانية، وكما في بيروت وجبل لبنان، كذلك في الشمال الذي فقد ألوانه العروبية إلى حدّ بعيد، أو يكاد يتخلى عن اللون العروبي، بعدما ذاق من الاستخبارات السورية ما ذاق على مدى عقود، وبعدما تحوّل حملة اللواء العربي إلى العمالة الأمنية لسوريا وللنظام الأمني اللبناني ـــــ السوري، وهو النظام الذي أسس للمرحلة الحريرية الحالية بشكل مباشر.
الأسئلة اليوم هي من يرث من، ومن يستقطب من، وأي دوائر هي التي تربح وأيها الخاسرة، ومن الذي يمكنه الاستيعاب مالياً، ومن الذي يمكنه تشكيل أقوى ماكينة انتخابية وبسط نفوذه في الشمال وعاصمته طرابلس؟
باتت القوى الإسلامية في الشمال تعاني أزمة فعلية، وأعمق مما يخال المرء، وينقلب الجو من الإسلام إلى المذهبية، والحريرية كما هو معلوم انهارت، حيث لمّ الحشد المجمع عشوائياً من 3 آلاف مقاتل من الأفواج لم يجدوا الكثير من الأماكن التي يختبئون فيها، فاتجهوا إلى مدينة الميناء وأطلقوا النار ابتهاجاً وترويعاً، وانتظروا بعيداً من مسجد عيسى بن مريم حيث كان ينتظرهم عشرات من مقاتلي التوحيد بقيادة هاشم منقارة، وهم يرفضون التخلي عن موقعهم، وهؤلاء العشرات هم من رفضوا تلبية طلبات القوى الأمنية بالاستسلام، وبإخلاء المسجد ومراكزهم، بل عمدوا إلى ربط مواقعهم بمراكز الحزب «القومي» في الجميزات، وبمواقع أبعد في التبانة وغيرها، بينما كانت مجموعات مقاتلة تدين بالولاء لأصدقاء خليل عكاوي تمسك بباب التبانة، وتتولى تهدئة المعركة مع جبل محسن التي افتعلها «بعض البنادق».
ألقى حزب الله و«من علياء المنتصر» بحسب أحد أنشط السياسيين الشماليين، بمكافأة «الوزير السنّي»، التي كان على المعارضة الشمالية السنّية أن ترفضها تلقائياً، وفي جانب آخر كان ثمة من يتصل بزوجته ويطلب منها تجهيز نفسها للمنصب، إلا أن مداخلات طرابلسية وإسلامية دفعت في النهاية إلى تصريح الداعية فتحي يكن، الذي قال إن ما تريده المعارضة هو وزير سنّي من بيروت، ولذلك، للتأكيد على أن تيار المستقبل لا يمثل السنّة بالكامل، إلا أن هذا الأمر لقي استياءً طرابلسياً، حيث أحد في الشارع الطرابلسي لا يوافق على دفع قطعة الحلوى المتمثلة بالمقعد الوزاري إلى العاصمة المنافسة لمدينة العلماء، أضف أن كلّ ما قام به يكن هو إبعاد الكأس عن شفاه المعارضة السنّية، التي لديها ما يكفيها من المشكلات والخلافات الداخليّة، وليست في صدد زيادتها، أو كما يصف سياسي شمالي «إغماد الأنصال في ظهور بعضنا من أجل المقعد الوزاري».
حين تسأل في طرابلس عن المعارضة تسمع كلاماً لا يسر، وحين تسأل المعارضين تسمع الشكوى شمالاً ويميناً، وحين تواجههم بمآخذ وجهها حزب الله ضمناً إلى معارضة لم تستفد من الفرصة الذهبية يسألونك «وأية فرصة هي تلك الموصوفة بالذهبية؟ معركة لم يبلغنا حزب الله بنيته خوضها، وإطلاق يد القوى في بيروت، بينما المعارضة الشمالية التي طالما تغنى بها الحزب واستدعى أفرقاءها للعب دور في الشارع السنّي، لا يعلمون ما الذي يحصل من حولهم، وتركهم يتابعون الأخبار على الشاشات.
الاتهام واضح بأن حزب الله ومعه حركة أمل كانا حريصين على نفوذ تيار المستقبل في بيروت، وأن ضرب هيكلية التيار لم تكن تعني للحزب القضاء على نفوذه، وعدم إبلاغ القوى كان من شأنه إيقاع خسائر جسيمة في عدادها لو هي قررت التدخل من منتصف المعركة، وبالتالي تم تحييدها وإجبارها على الوقوف موقف الدفاع والبقاء في مقاعد المتفرجين، كما أن الحزب، وفي وسط المعركة، وبحسب أحد القادة الميدانيين من المعارضة الشمالية «لم يقدّم لنا ذخائر ولا أسلحة».
«لو امتلكنا 50 بندقية إضافية لسيطرنا على طرابلس» يقول أحد رفاق خليل عكاوي الذين نشطوا خلال المعارك الأخيرة، إلا أن الدعم لم يصل إلى المعارضة الشمالية، واليوم يجري البحث في سياق الانتخابات عبر منظار يشبه ذاك الذي خيضت عبره العمليات العسكرية، وستقف المعارضة الشمالية محاولة الدفاع عن نفسها بوجه حلفائها في المعارضة أولاً، وتالياً ضد مجموعة من الحيتان المالية التي ستبتلع الانتخابات برمتها، وتطيح من يجرؤ على محاولة تجديد الحياة السياسية. بينما يطالب بعض المعارضين، وفي تواضع، باستراتيجيا تحفظ لمن يرغب السير في خط المقاومة بعضاً من إمكانات العمل المعنوية.


القضية الأساس

ترى أوساط في المعارضة الشمالية أن المرحلة لم تعد تسمح بالعمل مباشرة مع حزب الله، وأن على قوى المعارضة العمل في معزل عن التوجه والتنسيق الكامل مع الحزب اللذين أديا في المرحلة الماضية إلى إضاعة عدد من الفرص، وتضيف جهات أخرى في المعارضة أن المطلوب اليوم العودة إلى بندين في جدول الأعمال، أولهما إعادة طرابلس إلى المسار العربي الإسلامي الذي اشتهرت به، وهو مهمة يومية وملحة للمعارضة، والآخر هو العودة إلى الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، و«إن كان للحدود الجنوبية حساسيتها الفائقة، فإن العمل مع الإخوة الفلسطينيين من الداخل وإيصال رجال مستعدين للاستشهاد إلى العمق الفلسطيني ليسا بالأمر الصعب، ولا هما بعيدان عن قدرات المعارضة الشمالية».