نقولا ناصيفلا تعكس الصعوبة التي تواجه تأليف أولى حكومات العهد الجديد تلك التي رافقت مداولات اتفاق الدوحة في قطر. انتهى الاتفاق إلى الاعتراف بتوازن سياسي جديد بين قوى 14 آذار والمعارضة، ناشئ عن الحوادث العسكرية التي شهدتها بيروت، وأرسى معادلة غير مسبوقة في تأليف حكومة لبنانية. في تسويات سابقة مماثلة عرفها اللبنانيون أعوام 1975 و1984 و1989 اتفق على حكومة وحدة وطنية أو اتحاد وطني. إلا أن أياً منها، قبل اتفاق الطائف وبعده، لم تجرّد رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف من دوريهما الحاسم والحصري في تأليف حكومة تتطلّب تلك المواصفات، الأمر الذي أوجده اتفاق الدوحة ثمناً لإنهاء حرب الشوارع وإعادة الخلاف السياسي إلى المؤسسات الدستورية بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية. وللمرة الأولى يواجه الرئيسان فريقين سياسيين يشترطان لتأليف الحكومة حقائب يصرّان عليها. ويُترك لهذين الفريقين ــــ لا للرئيسين المعنيين بالتأليف دستورياً ــــ تسمية وزرائهما.
وقد لا تكون المرة الأولى بعد سابقة عام 1958، يجد رئيس للجمهورية نفسه أنه وحده المحايد في حكومة تتألف من فريقين متنازعين يملك كل منهما حق النقض فيها، وفي صفوفها رئيس الحكومة الذي هو أيضاً شريك أحد فريقي النزاع في معادلة التوازن الداخلي.
يندرج هذا الواقع في سياق ملاحظات:
أولاها، أن كلاً من الموالاة والمعارضة يمسك بمفتاح تأليف الحكومة أو الحؤول دونه، وتالياً وضع البلاد في شغور حكومي كون الحكومة الحالية لا يتعدى دورها تصريف الأعمال في نطاق تفسيره الضيّق. لا يستطيع رئيسها دعوتها إلى الاجتماع، ولا اتخاذ قرارات، وطبعاً لم يعد في وسعها استعادة سلطاتها وصلاحياتها الاستثنائية كما في الأشهر الأخيرة في ظلّ رئيس جديد للجمهورية. بذلك أضحت الموالاة والمعارضة معنيتين بالمساعدة على تأليف الحكومة الجديدة لأنهما باتتا متعادلتين سلباً في موقع كل منهما في السلطة: فقدت قوى 14 آذار سلطة الغالبية الحكومية، ولا تملك المعارضة ما تحكم به.
ثانيتها، تعذّر هامش المناورة الذي كان لحكومة السنيورة الأولى، ذلك أن اتفاق الدوحة حدّد سلفاً الأفرقاء الذين تتألف منهم حكومة الوحدة الوطنية، وأعطى كلاً منهم حصته، الملزمة للآخر، في الحكومة الجديدة. ولا يسع تالياً أي جهد أو مناورة لحمل فريق على الخروج من الحكومة الجديدة تحت وطأة إحراجه من خلال إعطائه حصة صغرى. مغزى ذلك أن ما نجح فيه السنيورة في استشارات ثم مشاورات حكومته الأولى عام 2005، وهو دفع الرئيس ميشال عون إلى رفض الحصة المعطاة له ورفض المشاركة في الحكم والذهاب من ثمّ إلى المعارضة، لم يعد متاحاً بعدما حدّد اتفاق الدوحة الثوابت الأربعة لتأليف حكومة الوحدة الوطنية، من ضمن ثنائية فريقين هما الموالاة والمعارضة، يقيم فيها أربعة أفرقاء أساسيين هم قوى 14 آذار وحركة أمل وحزب الله والتيار الوطني الحرّ. وهكذا لا سبيل إلى إبصار حكومة جديدة النور ما لم يتوافق هؤلاء على حصصهم فيها، أو لا حكومة أبداً. ورغم أن السنيورة لا يتصرّف كرئيس مكلّف، على أنه في منأى عن الخلاف السياسي بين حلفائه في قوى 14 آذار والمعارضة، بيد أنه يستمد موقعه وشرعية انحيازه، من اتفاق الدوحة التي حصر الحياد برئيس الجمهورية كي يدير في مجلس الوزراء خلافات الموالاة والمعارضة.
ومع أن تقاسم الأفرقاء الأربعة مقاعد الحكومة الجديدة يوحي بتحوّلهم المرجعية السياسية الكفيلة بتأليفها، واقع الأمر أنهم يمثلون عقبات التأليف بسبب مغالاة كل منهم في تقدير الحصة التي يعتقد أنها منصفة لموقعه السياسي وتمثيله الشعبي. وهو بذلك ينتقص من حصة الآخر الذي يضاهيه بدوره بادّعاء مماثل، الأمر الذي يجعل من تأليف الحكومة أزمة سياسية، بينما ناط اتفاق الدوحة بالأفرقاء الأربعة التزام الآلية الدستورية لإعادة تكوين السلطة الإجرائية.
ثالثتها، لا اتفاق الدوحة، ولا مداولات الأيام الأربعة في العاصمة القطرية، ذهبت إلى أبعد من تحديد عدد المقاعد لكل فريق. فلم يدخل الاتفاق ــــ شأن مناقشته فانون الانتخاب ــــ في تفاصيل توزيع الحقائب على كل من هؤلاء الأفرقاء، فانفجر الخلاف في ما بينهم. وبيّن ذلك أنهم يقاربون تأليف الحكومة وفق معادلة أن توزيع الحقائب يوازي في أهميته تقاسم المقاعد، الأمر الذي أدى إلى تشعّب تفسير كل منهم لمطالبه وإصراره على حقائب دون أخرى. مع ذلك فهم يدركون تماماً أن كلاً منهم لا يستطيع الحصول على كل ما يريده، وفي الوقت نفسه يتباطأ في التوصّل إلى مسافة مقبولة بين ما يريده وما يسعه الحصول عليه. بذلك يرفضان حتى إشعار آخر التوازن في التنازلات.
وحتى الساعات الأخيرة لم يشأ الأفرقاء الأربعة التنازل بمقدار يتيح إخراج الحكومة الجديدة. أظهر ذلك الدور المحدود لرئيس الجمهورية لإنقاذ تأليف الحكومة ما دام لا يملك مبادرة فرض هذا التأليف، وأظهر كذلك دوراً مماثلاً لرئيس الحكومة المكلّف إذ يكتفي بالتحلّي بالصبر والسعي إلى التوفيق بين هذا وذاك. في واقع الأمر، فإن الموالاة والمعارضة هما مَن يؤلّف حكومة الوحدة الوطنية، لا رئيس الجمهورية ولا السنيورة.
مع أن اتفاق الدوحة لم يضع في بند تأليف حكومة الوحدة الوطنية الموالاة والمعارضة على قدم المساواة، ولا عدّهما خصمين متكافئين، فأعطى الأولى 16 وزيراً والثانية 11 وزيراً، إلا أنه قسّم ضمناً الحقائب من ضمن هذا المعطى الحسابي الذي يؤول إلى توزيع الحقائب الـ22 وفق النسبة المئوية نفسها لتوزيع المقاعد. تحصل الموالاة على 12 حقيبة والمعارضة على 8، أضف إليها حقيبتين أعطيتا لرئيس الجمهورية. ذهبت حقيبتان سياديتان إلى الرئيس (الدفاع الوطني والداخلية)، وثالثة إلى الموالاة (المال) ورابعة إلى المعارضة (الخارجية). أما الحقائب الـ18 الأخرى فنوعان: حقائب خدماتية وأخرى سياسية. الأولى تترجّح بين مال مدرار وخدمات حيوية للمواطنين، تذهب من خلال الوزير الذي يشغلها إلى ناخبيه، كالصحة والشؤون الاجتماعية والعمل والأشغال العامة والنقل والزراعة والتربية والصناعة، والثانية حقائب لا يتعدّى دورها نطاقاً سياسياً يكتسب أهميته من اللحظة السياسية وأولوياتها الملحّة أو المعلّقة، كالعدل والطاقة والإعلام والاتصالات.