زينة خليلمنذ أن كان في السابعة من عمره، كان الطين لعبته المفضّلة، وكانت بداية حكاية عشقه لمهنة صناعة الفخّار. هي بالنسبة إليه مجهولة التاريخ، فـ«قد تعود إلى آلاف السنين، أو حتى إلى بداية التكوين»... جلّ ما يعلمه أنه ورثها «أباً عن جدّ»، مبرهناً عن ذلك بإبراز وثيقتين مرسلتين إلى جدّه، تعودان إلى عامي 1930 و1934، وتتضمّنان ذكراً لـ«طلبيّات» من الخوابي الفخّارية.
وبكثير من الحسرة، يتذكر الفاخوري أن بلدته كانت تضمّ 40 فرناً لصناعة الفخّار، حيث «كانت تُشوى الأواني الفخّارية بالمئات، لكثرة الطلبيّات. وكان كلّ فرن يقوم بأربع أو بخمس «حرقات» خلال فصل الصيف». أما اليوم، فـ«لم يبقَ سوى فرني، وتحوّلت الخوابي من أدوات لتوضيب المونة (زيت، زيتون، نبيذ، دبس،..) إلى أدوات للزينة، ما ترك تأثيره السلبي على البيع».
في المكان، تلمس الارتباط الروحي بين فوزي وفاخورته التي يداعبها بيديه، كأنها معشوقته التي عايشت معه بريق الشباب ووهجه عبر عقود من الزمن، حيث ذكريات الأجداد وإبداع الأصالة. يتربّع أمام آلته ويبدأ بالشرح: خلال فصل الشتاء «يخلط التراب (وتحديداً «الدلغان» الذي تتميّز به أرض بيت شباب)، ويصوّل بالماء. بعد ذلك، يُترك كي يجفّ جيداً، حتى أواخر شهر شباط. ثم أبدأ بتحويل التراب إلى أشكال فأقطّع كومة الطين المضروب إلى قطع عموديّة الشكل، قطرها 7 سم وطولها 20سم. ثم أتناول من هذا العمود قطعة حسب نوع الإناء الذي أرغب في صناعته، والذي أتحكّم في سعته حسب حركة أصابعي التي يجب أن تبقى على صلة متواصلة مع تفكيري، وذلك كي يبقى التكوير للطين مناسباً». ويشدّد على أن سرّ المهنة يكمن في حركة الأنامل، لأن «أي حركة بسيطة قد تشوّه شكل الطين». بعد ذلك، توضع الأواني الطينيّة في الهواء الطلق لتجفّ، ما يتطلّب أحياناً أسبوعاً كاملاً، قبل «أن توضع للشواء في الفرن لأسبوع آخر، وسط درجة حرارة قد تصل إلى 1500 درجة مئوية».
ترتسم على وجه الفاخوري ابتسامة. يأخذ نفساً طويلاً، قبل أن يتطرّق إلى بعض أسرار مهنته، بدءاً من كون الفخار الجيّد «يُصنع على الأيدي بواسطة المخباط والكفّة»، ومروراً بدور الدولاب الذي يستخدم في صناعة الأواني الصغيرة الأحجام، وصولاً إلى الخابية التي تحتلّ المرتبة الأولى بين «أخواتها»، فمن يصنعها يكن «معلّماً ابن معلّم»، لأنها تتطلّب إتقاناً في تنفيذها وفق مراحل متتابعة: «تُصنع قاعدتها أولاً، ثم الدائرة التي تعلوها، فالوسط قبل البدء بصناعة رأسها. وفي المرحلة الأخيرة، تضاف إليها الآذان الأربع». ويختصر سرّ النجاح في صنع الخابية بثلاث كلمات من قاموس المهنة: «التغليق، الخبيط والتعراية»، لافتاً إلى أن الخابية ذات سعة الـ200 ليتر (12 تنكة) تتطلّب نحو 20 كلغ من التراب.
وعن الأشكال والألوان التي تزيّن قطع الفخّار المتناثرة في المكان، ينفي الفاخوري اعتماده على الأصباغ الصناعية، موضحاً أن سرّ الألوان الطبيعية يكمن في بعض الإضافات على عجينة الفخّار، فـ«إذا أردت الأبيض، أضيف القليل من الملح. أما الأحمر، فهو اللون الطبيعي للطين. ويبقى الأسود الذي يمكن الحصول عليه بإغلاق فوهة فرن الفخّار، فيسدّ المسامات ويكسب القطعة اللون الأسود». أما معرفة جودة الآنية قبل شرائها، فلها عنده تفسير واحد لا يقبل الجدل: «يجب أن يقرع المرء عليها، فإذا رنّ صوتها كالجرس، فمعنى هذا أنها جيدة الصنع لا تقبل التردّد في اقتنائها».
ومع النصيحة التي يوجّهها إلى كل زائر لـ«بردوشته»، و«ببلاش»، يختم الفاخوري كلامه بالمفاخرة الممزوجة ببعض الأسى، لأنه الفاخوري الأوحد في بلدته، ولو أن مهنته «ما بتطّعمي خبز»، فـ«التعب هدّني... وما بقى من العمر أكتر من اللي مضى». ورسالة أخيرة يصرّ على إيصالها إلى من يعنيه الأمر: «كلمة يا ريت، بعمرها ما عملِت خابية»!