أنسي الحاج
حكي طبيعي
تُنقذ الفصحى السياسيّين. ياقتها المنشّاة تفرض المسافة واحتفاليّتها تُرْهب وجَرْسُها عابق بالتاريخ. اللغة الدارجة خطرة لأنها بسيطة ودروب الاحتيال فيها وَقْفٌ على موهوبين. هنا إمّا أنّك صادق وإمّا لا، وإمّا أنّك ظريف وإمّا لا، وإمّا أنّك «تقول» شيئاً وإمّا لا. تتضاءل مساحة التضليل لتغدو رهناً بالكاريزما الصافية. ترجع اللغة، أي وسيلة التعبير، هي لغة القلب والوجدان ولا تظلّ، كما هي مع الفصحى، لغة اللغة.
غير معروف لماذا يُصرُّ السياسيّون على الخطابة بالفصحى. لا أعتقد أنّهم أكثر عروبة من عبد الناصر. لا أعرف سبباً لهذا الإصرار (ولارتكاب الأخطاء اللغويّة) سوى الاختباء. الفصحى قناع والدارجة عارية. الفصحى تَهرُّب والدارجة مواجهة. الفصحى بديل والدارجة أصيل. البديل زائفٌ على لسان وحجرٌ كريم على لسان، حسب الرجل. وعلى قَدْر اندماج الكلام بالدم والعظم. أساساً لا شيء عند السياسي ليقوله، ولا يقول إلاّ ليكذب أو يُخرّب. وأمّا في المناسبات الرسميّة والاحتفاليّة فالكلام فَرْض شكليّ ومعظم الأحيان يتولّى وضع الخطب كَتَبَة يركّزون على إتقان الإنشاء المفخَّم والفارغ فيلفظه السياسيّون وكأنهم سواهم.
اتركوا الفصحى لكُتّابها. دعونا نسمعكم كما تتحدّثون في بيوتكم. لا إرهاب ولا تنعيس. حكي طبيعي.



مقال إسرائيلي
من مقال لأحد كبار الكُتّاب الإسرائيليين، إيغال سارنا، في صحيفة «يديعوت أحرونوت» تحت عنوان «إلى أجدادنا، العرب»، ويقصد مَن يُسمّون «عرب إسرائيل»:
«لا يمرّ أسبوع إلاّ تَطْلع عليكم تصريحات مدوّية لمسؤولين في اليمين الإسرائيلي زارعة في نفوسكم الاضطراب والقلق. وعندما تسمعونها، كيف لا يستولي عليكم الانطباع المرعب بأن ثمّة نكبة جديدة ستحلّ بكم، فتُهجَّرون بالشاحنات خارج قراكم العتيقة عبر ظلمات الجبل (لبنان) والشريط (الضفّة الغربية)؟ ذلك بأنه، حين يحدّثونكم عن مبادلة أراضيكم (في مقابل بعض المستوطنات الإسرائيليّة في الضفّة) فإنما المقصود فعلاً هو مبادلة السكّان.
بعد أن تجد القضيّة الفلسطينية حلاً لها على النحو الأمثل، بفضل طوّافاتنا الآباتشي، وتصفياتنا، وانسحاباتنا الأحادية الجانب، وجدارنا الفاصل، وشريطنا، وغاراتنا الوقائيّة، سيبقى علينا أن نجد حلاً لقضيّة القضايا: قضيّتكم أنتم، قضيّة المليون ونصف المليون مواطن إسرائيلي مسلم ومسيحي الذين يعيشون بيننا.
ما زلتم طابوراً خامساً، سرطاناً، حصان طروادة (...) إنكم عربنا (...) أنتم الذين (رغم كلّ شيء) تتشبّثون بهذه الأرض. أحياناً يُخيّل إليّ أنه لا بدّ أن تكونوا يهوداً بمعنىً من المعاني لكي تستطيعوا العيش وسط أُناسٍ ينظرون إليكم وهم يتساءلون متى سترتكبون جريمتكم المقبلة.
(...) لكنّكم أيضاً إسرائيليون أكثر من الإسرائيليّين. تُرى، أيكون هذا هو التوق الأبدي لدى الأقليّة للتشبّه بالأكثريّة؟ أم انكم مدركون شديد الإدراك للوضع في الأردن وسوريا ولبنان؟ ربّما هذا كلّه ما جعلكم نوعاً من أقليّة يهوديّة في بلد إسرائيلي، أقليّة أهدت إلينا ملكات جمال ولاعبي كرة قدم ورسّامين وخلاّقين ومهندسين وممثلين وموسيقيّين ومخرجين سينمائيين، ورجل مسرح وكاتباً في براعة إميل حبيبي (1921 ـــــ 1996) الذي نجح، أكثر من أي إسرائيلي، في التعبير بمزيج متعادل من الظُرف والحزن عن تعقيدات علاقتنا الغريبة.
(...) أعرف، يا إخوتي عرب إسرائيل، أنّكم أبداً لن تنزحوا. إن حالَفَنا الحظّ سوف ننجو معاً. وإن خاننا الحظّ فسوف نسقط معاً».
مع التحفّظ عن كون «عرب إسرائيل» قد «صاروا» أقليّة بعدما كانوا أكثريّة، لا تستوقف في هذا المقال رغبته في الإنصاف بل تساؤله إذا لم يكن الفلسطينيّون بمعنى ما يهوداً حتّى يتحمّلوا التعايش لا مع أيّ يهود كانوا بل مع يهود أعداء يرتابون فيهم على الدوام ولا يعرفون متى ينقضّ الواحد من هؤلاء العرب عليهم تقتيلاً.
دعنا من الرِيَب والتقتيل، لنسحب الفكرة، فكرة التشابه، على حالتنا، لعلّنا أحقّ بها. رغم أن أحدنا ليس في وضع المحتلّ للآخر، ولا العدوّ، حتّى مع أخذنا بمعايير الحروب الأهليّة ووقائعها. فهي، كما يقول اسمها، حروب «أهليّة»، وليس بيننا «أجسام غريبة» مزروعة عنوةً. بالإمكان القول إن في المسيحي اللبناني شيئاً من المسلم اللبناني، والعكس، وفي مسيحي الجبل شيئاً من درزي الجبل، وربّما العكس، وفي ماروني اليوم شيئاً من شيعي الأمس، والعكس، وخصوصاً أن كثيرين من مسلمي اليوم كانوا مسيحيّين بالأمس، والعكس. وإذا أنعمنا النظر في تركيبات المجتمع السوري لما وجدنا صعوبة في العثور على أمثلة مشابهة. كذلك في العراق ومصر والأردن. كذلك على الأرجح في كل بلاد العالم.
لكنّها ليست بالضرورة مدعاة للتفاؤل. أشدّ المتقاتلين وحشيّة هم الإخوة. وتبقى المرآة أكبر خطر على الوجه المحدّق إليها.
«إلى أجدادنا العرب». عرب كثيرون، لا المسيحيّون فيهم وحدهم، يُمكن أن يكتبوا مقالاً تحت عنوان «إلى أجدادنا اليهود»... على أمل أن يكتشفوا ذات يوم أنهم جميعاً كانوا قرابين وأدوات.



شفاعة
الإله الذي في داخلي ليس هو الإله الذي في داخلك، وقد لا يجمع بينهما شيء، ولكن يكفي أن يكون لنا أنا وأنت داخلٌ وفي هذا الداخل كائنٌ هو الأعمق فينا، يكفي هذا الركون إلى تلك الغَيَابَة، إلى المَهْبط أو المَصْعد كما شئت، حتّى تتكوّن لكلٍّ منّا شفاعة تجاه الحياة.



وجهاً لوجه
حين أجد نفسي على انفراد مع الطبيعة يتولاّني الندم: كل تلك الشتائم نقذف بها «العالم»، «الدنيا»، «الأرض»، والأرض والدنيا والعالم هي، أيضاً، هذه الجمادات والنباتات والأجواء الحليمة، ذات الصبر اللانهائي على صبيانيّاتنا.
أمّا عنصر البشر في كلمات «العالم» و«الدنيا» و«الأرض» فهل نجرؤ على بغضهم فرادى كما نعاملهم جماعات؟
كلٌّ منّا ينطوي على دون كيشوت، تارةً أخويّ وطوراً كاره. و«العالم» في الحالين بل الحالات مثل الحمار، يحمل ويتحمّل إلى أن يلبط لبطته، على شكل زلزال أو طوفان أو احتباس حراري، فضلاً عن الأوبئة وظواهر الفاقة. ومثل الحمار، بعد أن يلبط لبطته يعود «العالم» إلى هدوئه، ويعود «الركّاب» إلى طبائعهم.
العلم يُبرّئنا من أسباب غضب الطبيعة، إلاّ ما تعلّق بتشويه البيئة. ولكن ما يدري العلم؟ وهل العلم إلاّ العلماء؟ وهل العلماء إلاّ شركاء مع سائر الكائنات في استغلال هذا الحمار الكوني ظنّاً منهم هم أيضاً أنه حمار؟
انظر إلى هذا الجبل الأغبر في الظهيرة والأزرق الرمادي عند الأصيل. كيف يبرز لك فجأة وأنت تصعد بالسيّارة إلى اللقلوق. الرابض كالنهاية بعد المفترق دون تمهيد. بكامل ضخامته وظلاله. انظر إلى بحر صيدا وصور في الظلام لا تحت حرير الشمس وحده. هذا الغامض حتّى على أسماكه. انظر إلى وادي قنّوبين، هل تستطيع أن تطيل النظر؟ وإلى شلاّل جزّين ومكاسره؟ وإلى مهابات جبل الشيخ؟ وإلى الصمت المدفوع بالصمت في سهول البقاع؟ وماذا يقول لك المنظر من تلال حريصا؟ وبين الأرواح المنتشرة في الغابات التي لم تحترق بعد؟ وكيف لا ترتعد فرائصك إذا استيقظت ليلاً فألفيتَ نفسك مضطجعاً وحيداً تحت واحدة من شجرات «أرز الربّ»؟ بل انظرْ، بعد أن تمسح عن عينيك خيوط الاجترار، انظرْ إلى سقف غرفتك، إلى الخزائن والأدراج، ماذا تَسْمع؟ لا شيء؟ لا شيء!؟ هذا هو صوت فراغك... كلّ واحدة من هذه «الموجودات» قائمة من صنع يديك صحيح، ولكنْ أيضاً بكَرَم أخلاقها، كلّ «حمار» من هذه الحمير يُحبّك ويَحميك، ويحتضن ثوانيك وطباعك كأنّه أمّكَ وأبوك...
ليس هذا درساً في وجوب التواضع ولا في وحدة الكون... إنه مجرّد انتباهة متأخّرة وسْط بحر الغَفْلات.