فايز فارسعندما يضعف موقع رجل السياسة أو يفشل في تأدية دوره في لبنان، يبرز رجل الدين إلى الواجهة بهدف «ملء الفراغ». هي علامة انكسار وشهادة على الفشل. إنّ رجل الدين، في سعيه إلى انتشال السياسي الغريق، يخفق في أغلب الأحيان حيث فشل السياسي من قبله بسبب لجوء المنقذ إلى الأساليب الملتوية ذاتها التي أفشلت السياسي المطلوب إنقاذه، مع العلم أنّ المطلوب إنقاذه إنما هو الوطن والمجتمع والناس.
متى سنتعلم أن التضحية بالوطن من أجل إنقاذ سياسيّ مهما علا شأنه وتضخّمت ثروته، هي الخطيئة المميتة التي لا يجوز السكوت عنها أو السماح بها بعد اليوم؟
إن تدخّل رجال الدين الفاضح في الشأن السياسي بحجة ملء فراغ ما، هو السبب الأول الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم. وما أكثر تجاربنا المريرة التي عشناها منذ ما قبل الاستقلال إلى هذه الأيام السوداء التي نشهدها.
والتاريخ يفيدنا بأنّ جبل لبنان قد عاش خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في ظلّ ثنائية درزية ــــ مارونية، سرعان ما استبدلت من جانب سلطة الانتداب الفرنسي بثنائية سياسيّة مارونيّة «جبلية» وسنّية «ساحلية»، وتطوّرت العاصمة بيروت ديموغرافياً واقتصادياً، وبشكل فوضوي، على حساب ما صار يُعرف بالمناطق، وبخاصة الجنوب الصامد المقاوم، والتي لم تعرف سوى الإهمال والحرمان في ظلّ نظام هشّ ودولة لا يرف لحكّامها جفن.
ألم يحن الوقت بعد للاتفاق على معادلة رباعية أو سداسيّة جامعة كقاعدة ثابتة تستمد شرعيتها من مجلس شيوخ طوائفي متساوٍ في عدد أعضائه المنتخبين مباشرة من أهل ملّتهم فقط، ومجلس نواب منتخب على أسس مدنية علمانية وقواعد حزبية وطنيّة سياسيّة، مع اعتماد لبنان دائرة انتخابية واحدة موحدة، بحيث يجتمع المجلسان أربع مرات في السنة من أجل إتمام المهمتين الأساسيّتين: التشريع وسن القوانين أو تعديلها من جهة، ومساءلة ومحاسبة الحكومة على أدائها وإنجازاتها من جهة أخرى؟
يبقى أنّ مشكلتنا الأكبر في لبنان ليست في حجم الدوائر وعددها أو في اعتماد النسبية على سبيل المثال، بل في أهليّة الناخب الذي بُني على أسس وتقاليد وعادات جعلته خلال عقود رهينة في يد المرشح، نائباً عطوفاً كان أو وزير خدمات سابق، وضعيفاً أمام إغراءات مادية ووعود عرقوبية يلوّح بها مرشح لا يملك من المؤهّلات الإنسانية والفكرية والعلمية سوى مال وفير يسمح له بشراء الذمم وغير الذمم. فهل نحافظ على هذه العادات السيّئة أم نحاول الارتقاء بالمواطن الناخب إلى مصاف الأحرار من كل قيد ودين ومنّة؟
إن مبدأ فصل السلطات في كل الديموقراطيات التي نتمثّل بها يقضي باختيار رئيس مجلس الوزراء وأعضائه من خارج مجلسَي الشيوخ والنواب، بحيث يتفرّغ الوزراء عندها لتأدية دورهم البنّاء اجتماعياً واقتصادياً، استناداً إلى سياسات إنمائية متوازنة مدروسة ومعلنة على الملأ، التي على أساسها اختيروا، كما تجري محاسبتهم خلال دورتين سنويتين.
كذلك يُعهد إلى مجلس القضاء الأعلى بواجب اختيار رئيس المجلس الدستوري وأعضائه ورئيس مجلس الشورى وأعضائه، مع منح هذه المجالس الثلاثة استقلاليّة فعليّة بهدف حمايتها من أيّة هيمنة سياسيّة وغير سياسيّة.
هذا بعض ما جاء في وثيقة الطائف التي ما زالت محاضرها محفوظة في أدراج وخزائن بعض النواب الذين يطلّون علينا من حين إلى آخر بطروحاتهم.