نقولا ناصيفرسمت المواقف الأخيرة للرئيس السوري بشار الأسد، إبان جولته على الإمارات العربية المتحدة والكويت، ملامح وجهة نظر بلاده من لبنان في مرحلة ما بعد اتفاق الدوحة. وأكثر من أي وقت مضى، بدا أكثر استعداداً للخوض في علاقات جدّية بين البلدين بعدما حدّد أطراً أربعة لهذا الحوار سمعه مجدّداً في دمشق في الساعات المنصرمة بعض زوارها: أولها، ارتياح دمشق إلى التوازن السياسي الجديد في لبنان الذي كرّسه اتفاق الدوحة، ومن شأنه أن يجعل من الحوار مع سوريا أكثر تمثيلاً للسلطة الجديدة. وثانيهما، تأليف حكومة وحدة وطنية تسحب من يد قوى الغالبية ملف علاقات البلدين، ولا يجعلها من الآن فصاعداً تتفرّد به لدى المجتمع الدولي. وثالثها، اقتران التبادل الدبلوماسي بتطبيع علاقات البلدين، من غير أن يغفل استمرار وجود مرجعية تنظم هذه العلاقات التي هي المجلس الأعلى اللبناني ـــــ السوري، الذي لم تلغه حكومة الغالبية ولا علّقت نشاطاته من طرف واحد. وسمع زوار دمشق مجدّداً ما كان قيل في حمأة دعوة سوريا إلى تبادل دبلوماسي بعد صدور القرار 1680 في 17 أيار 2006، وهو أن نزاعاً حاداً ناشباً بين لبنان وسوريا أقرب إلى التسبّب بقطع علاقات دبلوماسية بين بلدين منه إلى فتح سفارة.ورابعها، تثبيت صحة وجهة نظر سوريا من الصراع في لبنان، وهي ضرورة أن تأخذ أي تسوية سياسية في الاعتبار توافق طرفي النزاع على الحكم وطريقة إدارته. أوحى الأسد تالياً بأن اتفاق الدوحة أضفى صدقيّة على ما قالت به دمشق لأشهر، وهو أن البديل الحتمي من تقاسم متوازن للسلطة بين الموالاة والمعارضة توقّع الاضطراب والفوضى والانهيار الكامل.
ومع أن مواقف الرئيس السوري اقتصرت على توجيه إشارات إيجابية إلى رئيس الجمهورية ميشال سليمان، ومن خلاله إلى حكومة الوحدة الوطنية بإبداء التعاون مع هذه بمعزل عن وزرائها، فإن أي خطوة إجرائية على صعيد علاقات البلدين تبدو مستبعدة في الوقت الحاضر، في رأي دمشق، قبل نشوء السلطة السياسية الجديدة. كل ذلك لم يحل دون أن تسجّل دمشق مآخذ عبّرت عنها مغادرة وزير الخارجية وليد المعلم بيروت فور انتهاء جلسة أداء سليمان القسم في 25 أيار الفائت، وهي استياؤها من بعض حلفائها الرئيسيين الذين تجاهلوا، في مجلس النواب وخارجه، توجيه كلمة تقدير إلى دورها الإيجابي سواء بالنسبة إلى إنجاز اتفاق الدوحة، أو دعمها حلفائها هؤلاء على مواجهة خصومهم المحليين والعرب في الأشهر الأخيرة التي سبقت انهيار حكم الغالبية.
في واقع الحال، تبدو دمشق اليوم أكثر اطمئناناً إلى فرص مباشرة حوار لبناني ـــــ سوري رفيع المستوى لا يربكها، ولا يمثّل تهديداً جدّياً لها تحت وطأة عناصر لا صلة مباشرة لها بهذا الحوار كالمحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ويعوّل في الوقت نفسه على معطيات أبرزها:
1 ـــــ انتظار تكوّن السلطة السياسية اللبنانية الجديدة. والمقصود بذلك تأليف حكومة الوحدة الوطنية، المتوازنة التمثيل والفاعلية والتأثير في مجلس الوزراء. إلا أن أي حوار مع لبنان تقدم عليه دمشق ينطلق من علاقة مباشرة بينها وبين سليمان. ويُعتقد في العاصمة السورية أن الخطوة الأولى للدخول في حوار لبناني ـــــ سوري رفيع المستوى، للمرة الأولى منذ زيارة الرئيس فؤاد السنيورة لدمشق في كانون الأول 2005، تنتظر زيارة سليمان دمشق ولقاءه نظيره السوري من أجل إرساء إطار جديد لعلاقات البلدين.
2 ـــــ في ظنّ المسؤولين السوريين أن النتائج السياسية التي أفضى إليها اتفاق الدوحة، أعادت الحوار حول العلاقات اللبنانية ـــــ السورية إلى نطاقه الثنائي بين البلدين، وأخرجته من التجاذب الذي رافق إثارة هذا الموضوع أكثر من مرة حتى عشية قمة دمشق، وخصوصاً عندما توجّه رئيس الحكومة المستقيلة إلى الزعماء العرب في 28 آذار، طالباً وضع يد الجامعة العربية على هذا الحوار ورعاية إجرائه على نحو متكافئ ومتوازن لوضع حدّ للتدخّل السوري في الشؤون اللبنانية. وكان اجتماع وزراء الخارجية العرب في الكويت ممهّداً لقمة دمشق أدرج بند علاقات البلدين في جدول أعمال القمة التي خرجت في بيانها الختامي بتأكيد الرعاية العربية لهذا البند. إلا أن اتفاق الدوحة تجاوز المسار الذي شاءته الغالبية بدعم من الرياض والقاهرة، رغم أنه لم يشر إلى العلاقات اللبنانية ـــــ السورية، ولا كانت هذه في صلب مداولات المتحاورين في قطر، ولم يعدّ علاقات البلدين أحد مبرّرات الأزمة السياسية والدستورية اللبنانية حينذاك وفق اتهامات حكومة السنيورة والغالبية.
3 ــــ يدفع ذلك إلى اعتقاد المسؤولين السوريين بأن ملف علاقات البلدين أضحى الآن فعلياً في يد رئيس الجمهورية الذي حدّد بدوره نظرته إليها في خطاب القسم في 25 أيار. وهو إذ طالب بعلاقات دبلوماسية لبنانية ـــــ سورية وباحترام كل من البلدين سيادة الآخر، تحدّث للمرة الأولى كأول مسؤول لبناني رفيع خارج الاشتباك السياسي مع سوريا، وللمرة الأولى أيضاً منذ خروج الجيش السوري من لبنان عام 2005، عن علاقات مميّزة، غالباً ما وُصفت بأنها المظهر الأكثر تعبيراً عن الهيمنة السورية على الإرادة اللبنانية. بدوره، السنيورة كان قد طالب عند إعلان اتفاق الدوحة في 21 أيار بتصويب العلاقات اللبنانية ـــــ السورية.
غير أن الأهم في ما أفضى إليه اتفاق الدوحة، أنه لم يكتفِ بنقل ملف علاقات البلدين من الجامعة العربية إلى حكومة الوحدة الوطنية، بل جعل مقاربة هذا الموضوع أسيرة توافق حتمي بين الموالاة والمعارضة عليه في مجلس الوزراء برئاسة رئيس الجمهورية. وإذ ينبئ ذلك بعودة ـــــ وإن مضمرة ـــــ لسوريا إلى طاولة حكومة الوحدة الوطنية من خلال حلفائها، وفي قبضتهم نصاب الثلث الزائد واحداً، فإن مظاهر تطبيع علاقات البلدين ستسبق بدء أي حوار ثنائي جدّي مع دمشق. وسيقلّص ذلك مقدرة قوى 14 آذار من داخل السلطة على خوض معركة مباشرة مع النظام السوري بمعزل عن رئيس الجمهورية. كذلك سيحمل الغالبية على التخلي عمّا درجت عليه الحكومة المستقيلة في السنة ونصف السنة المنصرمة، عندما كانت ترى سوريا العدو الوحيد الذي تواجهه في لبنان وتتعامل في المقابل مع المعارضة بتجاهل واستعلاء وتصفها بأقلية منبوذة.