غسان سعودلم تعد الصالونات السياسيّة وقفاً على السياسيين. فاندفاعة الناس صوب السياسة وتتبُّعهم الصغيرة والكبيرة حوَّل غالبية المنازل على امتداد الوطن إلى صالون سياسي كبير يستمع أصحابه بشغف إلى التفاصيل ثم يناقشون ويستخلصون. والأكيد أن هذه الصالونات الجديدة، الموزعة بين المنازل ومكاتب العمل والورش والطرقات وسيارات النقل، أمتع وأغنى من صالونات سياسيِّين كثر يمضون وقتهم في تكرار ببغائي لمواقف زعمائهم.
يعبّر أهل هذه الصالونات عن آرائهم بجرأة يفتقر إليها السياسيون، فيرفض أنصار المعارضة عودة الرئيس السنيورة إلى السرايا رئيساً لأولى الحكومات في عهد «الحوار والمصالحة». ويستغربون كيف يرضى سياسيوهم بهذه العودة بعد كلِّ ما قالوه عن السنيورة، رافضين الحجج التي يقدمها زعماؤهم وواضعين إيّاها في خانة الذرائع الكاذبة. وبعضهم يطرح على نفسه أسئلة تشكك في حكمة قادتهم، سواء ما يتعلق بقبول «الشراكة مع من أقنعونا بأنهم عملاء إسرائيليون وأميركيون»، أو بالسبب الذي دفعهم إلى التمسك بترشيح قائد الجيش السابق العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية بعد حوادث مار مخايل التي دفعت المعارضة ثمنها سبعة شهداء. ويسخر هؤلاء من تبريرات زعمائهم، موضحين أن صورة عون وجعجع يتبسم واحدهما للآخر لا تُهضم بعد أن يكونا قد ملآ أنصارهما شحناً وتوتراً، كما لا يمكن تفهّم صورة مسؤولي حركة أمل يتبادلون لطيف الحديث مع النائبين وليد جنبلاط وأكرم شهيب بعدما أمعن الطرفان تهشيماً بعضهما في بعض.
ومن الانتقادات الشخصيّة، التي يفترض أن تبقى داخل «البيت»، ينتقل أنصار المعارضة إلى انتقاد الآخرين، فيبدو جعجع من أكثر المكروهين في هذه الصالونات. ومعظم الناس يقيدون حكمهم على «الحكيم» بماضيه، فيبدون غير مستعدين ليمحوا من ذاكرتهم أفعال الأخير قبل سجنه، ولا ليصدقوا توبته أو ليؤمنوا بصدق نياته. وقبل أن ينهي زعيم بشري كلامه يبدأون في البحث عن حجج لنقض ما يقوله.
أما الشخصيّة الاستفزازيّة الثانية، بالنسبة إلى قواعد المعارضة، فهي وليد جنبلاط ومعه النائب وائل أبو فاعور، ويلعب تلفزيون المنار هنا دوراً مهماً في رفد المعارضين بالقرائن التي تساعدهم في تشويه صورة الزعامة عند سيد المختارة، وتكثر الأوصاف التي يستخدمها ناس المعارضة في كلامهم عن جنبلاط، كما تكثر العبارات النابية التي تكشف حجم الغيظ وضيق الصدر، وأحياناً صعوبة النسيان. وعلى صعيد النائب سعد الحريري، يتحدث أهل المعارضة بهدوء، ويطغى على كلام معظمهم عنه عبارات الشفقة بسبب «المعمعة» التي حُشر فيها، والمسؤوليات التي ألقيت على عاتقه ظلماً قبل الأوان.
أما جمهور الموالاة، فحدّث ولا حرج، هناك أولاً أسئلة محرجة يطرحها هذا الجمهور على نفسه ولا يمتلك أجوبة مقنعة عنها، مثل سبب الانهيار السريع لتيار المستقبل، وخلفية المواقف الجنبلاطية، ومصير قوى 14 آذار بعدما قايض الأميركيون بهم، وأخلفوا بوعودهم. وثمة كلام في صالونات هؤلاء عن خيبتهم باكتشافهم أن الأحلام التي بشر بها مسؤولو الموالاة كانت مبنية على الرمال، اهتزت عند أول موجة. ويستغربون كيف يرضى الحريري بتسوية تعطي المعارضة الثلث المعطل في مجلس الوزراء، وكيف يقبل الجلوس مع ممثلي حزب الله قبل أن يقدم هؤلاء اعتذاراً علنياً من جميع أهل بيروت.
وفي المقابل، يبشر جمهور الموالاة بتبخّر الحالة العونيّة «سريعاً جداً» بعدما تبخر حلم هذه الحالة بوصول عون إلى بعبدا. ويرون في اتفاق الدوحة محطة ضرورية للموالاة كي تستعيد أنفاسها بعدما فازت بنقطة أساسيّة هي إثبات كون سلاح حزب الله قابلاً للاستعمال في الداخل. أما أكثر المعارضين استفزازاً لجمهور الموالاة فهو الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله وبعض مسؤولي الحزب مثل حسين الحاج حسن وعلي عمار. واللافت أن جمهوري المستقبل والقوات اللبنانيية باتا يتحدثان بالطريقة نفسها عن ولاية الفقيه والخطر الفارسي وغيرهما، وسط مزايدة بين الناس بعضهم على بعض في تخيل تفاصيل ولاية الفقيه وانعكاساتها على الحياة الاجتماعيّة اللبنانيّة. مع العلم أن فئة كبيرة من شعب الموالاة لم تعد تستفزها تصريحات الوزير السابق وئام وهاب الناريّة، وتتشارك مع شعب المعارضة في الضحك لابتكاراته.
وعلى هامش الكلام السياسي، يسجل في هذه الصالونات تقدم السياسة في الحياة الاجتماعيّة اللبنانيّة على ما عداها من الهموم، حتى لو كان منطلق الاهتمام بالسياسة مذهبياً في معظم الحالات. والغريب أن الناس المتشوقين لكل تفصيل سياسي يتابعون لحظة بلحظة ما يحصل، ويفاجأ السياسي الجالس في صالونهم بأنهم في معظم الحالات، لكثرة متابعتهم، يعرفون أكثر منه، ويذكرون بالاسم «محللين» يطلّون من بعض الشاشات لم يسمع بهم أحد. والطريف أن صالون الناس يبدو أحياناً أكثر ذكاءً ومنطقاً من صالونات سياسية كثيرة، لا بسبب تخلّف «نجومها» ثقافياً وسياسيّاً فحسب، بل أيضاً لانغلاقها على نفسها وابتعادها عن نبض الحياة الشعبيّة.